كان لافتاً في الأيام الثلاثة الفائتة، حدوث تحسن كبير ومفاجئ، في سعر صرف الليرة السورية في السوق السوداء، بالتزامن مع اللقاءات الجانبية والمصافحات والاستقبال الودي الذي حظي به رأس النظام، بشار الأسد، في القمة العربية في جدة، السعودية. وكان من اللافت أكثر، أن مؤشرات ضخٍ للدولار، تبدت، يوم الجمعة، أثناء إلقاء القادة الحاضرين للقمة، كلماتهم، ومن بينهم، الأسد.
ومنذ ظهيرة الأربعاء الفائت، وحتى ظهيرة أمس السبت، خسر “دولار دمشق”، 750 ليرة، وتحسن سعر صرف العملة السورية بنسبة 8%. وجاء ذلك، مباشرةً، بعد آخر رفع للسعر الرسمي لمبيع “دولار الحوالات”، صباح الأربعاء، ليصبح بـ 8100 ليرة.
وعادةً، يؤدي رفع السعر الرسمي لـ “دولار الحوالات” إلى ارتفاعٍ لـ “دولار السوق”، في سياق المنافسة بين المركزي ومكاتب الصرافة الرسمية المرتبطة به، من جهة، وبين تجار السوق السوداء، من جهة أخرى، على جذب حوالات المغتربين السوريين، إلى قنواتهم. لكن، هذه المرة، لم يحصل ذلك. بل انهار سعر السوق بشكل متسارع، وغريب، بصورة تؤكد الأنباء التي تم تداولها بين صيارفة ونشطاء في السوق، أن المركزي يضخ الدولار.
ووصل الأمر إلى ذروته، يوم الجمعة. وهو عادةً، يوم عطلة للصرّافين، ولا يشهد صفقات بيع أو شراء ذات شأن. لكن في هذه الجمعة، انقلب الأمر، وقالت مصادر تعمل في السوق إن عروضاً للدولار أُتيحت على نطاق ملحوظ. وبالفعل، تراجع مؤشر الدولار في السوق، خلال التعاملات غير المعتادة، يوم الجمعة، ليتابع هبوطه، في تعاملات صباح وظهيرة السبت.
التدخل الأخير للمركزي في السوق، جاء بعد تدخلات أقل فاعلية، بذلها في مطلع الأسبوع الفائت، لكنها لم تُؤتِ ثمارها، إلا بصورة محدودة ومؤقتة. إذ تحسنت الليرة لأيام، وبنحو 400 ليرة مقابل الدولار، قبل أن تعود إلى مستوياتها المتدنية السابقة، ما دفع المركزي للقيام بتدخل أكبر في الأيام الثلاثة الأخيرة، أثمر تحسناً كبيراً لليرة جعل سعرها في السوق بفارق 300 ليرة فقط، عن سعر المبيع الرسمي لـ “دولار الحوالات”، وهي سابقة غير معتادة. لكن إلى متى يدوم تأثير هذا التدخل الأخير؟ ربما أيام فقط، قبل أن يسترد السوق المبادرة. إذ أن إبقاء الليرة السورية في مستويات أعلى مما يقيّمها بها السوق، تتطلب تدخلاً مستداماً، مما يعني نزفاً لا تتحمله خزينة المركزي.
ويمكن فهم غاية هذا التدخل الأخير. إذ كانت الليرة تعاند محاولات دعمها، في الأيام التي سبقت وصول رأس النظام إلى جدة، خلال الاجتماعات التحضيرية للقمة العربية. وكانت وسائل إعلام معارضة، وعربية أيضاً، تلفت الانتباه إلى أن الليرة تتهاوى رغم “الانفتاح العربي” على الأسد. وكان ذلك خلافاً للبروباغندا التي عكف عليها إعلام النظام، بأن هذا “الانفتاح” عليه، نصر سياسي، وبداية انفراج للضائقة المعيشية والاقتصادية التي يعيشها السوريون منذ سنوات.
وكان يمكن تصور حجم الإحراج لهذه البروباغندا، لو كان خطاب الأسد، قد تزامن مع استمرار تهاوي الليرة في السوق. فالخطاب الذي ألقاه أمام القادة العرب، لم يوحِ مطلقاً بأية نيّة لتقديم أي تنازلات. كان خطاباً من موقع “المنتصر”، والمستند إلى رغبة بعض الدول العربية في “إعادة التموضع” تماشياً مع “تبدل الوضع الدولي الذي يتبدى بعالم متعدد الأقطاب”. وقد أكد الأسد مرتين على الأقل، على عدم التدخل بالشؤون الداخلية، والمساعدة “عند الطلب حصراً”.
ما سبق يطرح تساؤلاً: كم أهدر المركزي السوري من خزينته الدولارية، في سبيل تعزيز سعر صرف الليرة السورية، أثناء تواجد رأس النظام في قمة جدة؟
فتلك الخزينة الدولارية، التي تم ترميمها على حساب حوالات السوريين ومساعدات الدول خلال كارثة الزلزال، ومن ثم على حساب حوالات السوريين في رمضان وقبيل عيد الفطر، بقيت عصيّة على تمويل المستوردين، الذين واجهوا صعوبات أكبر من السابق في الحصول على التمويل المناسب لصفقاتهم، مما انعكس ارتفاعات متتالية في أسعار السلع في الأسواق، وشحاً في توافر بعض المواد. الأمر الذي دفع محللين اقتصاديين موالين إلى التلميح أو حتى التصريح المباشر، بمسؤولية المركزي عن تفاقم التدهور المعيشي في البلاد، نظراً لأنه يقبض على “دولارات الحوالات” التي يتمكن من اقتناصها عبر القنوات المرخّصة، فيما يضطر التجار لتمويل مستورداتهم من السوق، فيزداد الطلب على الدولار، فيرتفع على حساب الليرة. وكان المركزي خلال الأسابيع السابقة، وبدلاً من وقف هذه المتوالية، يقوم بتعزيزها، إذ يرفع “دولار الحوالات”، ليحافظ على حصته من حجم الحوالات القادمة إلى البلاد، في سياق منافسته المستمرة مع السوق السوداء. مما أدى إلى استمرار ارتفاع الدولار. حتى اقترب موعد القمة العربية. وتحقق ما كانت قد حذّرت منه وزيرة الاقتصاد السابقة، لمياء عاصي، واستُخدمت الخزينة الدولارية للمركزي، في المضاربة في السوق، بغية تحسين سعر صرف الليرة، مؤقتاً، ولأسباب سياسية ودعائية، لا أكثر. خدمةً لأن يظهر الأسد “المنتصر” في مظهر أفضل، وبأن حكومته قادرة على مسك زمام سعر صرف العملة. وفي سبيل ذلك، لا نعلم، كم مليون دولار من حوالات السوريين المُغتصبة، أُهدِر.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت