تتعدد حيثيات القرار الذي اتخذته تركيا بإغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات الروسية العسكرية والمدنية التي تقل عتاداً أو جنوداً إلى سوريا، وذلك مع انتهاء الإذن الممنوح للجيش الروسي باستخدام المجال الجوي التركي في بداية نيسان/ أبريل الجاري، والذي كان يجري تمديده بشكل روتيني كل ثلاثة أشهر في الفترة السابقة.
ويكتسي القرار التركي أهمية من حيث الرسائل التي يحملها، إلى جانب توقيت صدوره، وذلك في ظل الأوضاع التي تشهدها مناطق في الشمال السوري، والتطورات الجارية على الصعيد العالمي مع الغزو الروسي لأوكرانيا وإرهاصاته، فضلاً عن كونه الأول من نوعه منذ المصالحة التي جرت بين البلدين، وأنهت التوتر الذي اعترى علاقاتهما على إثر إسقاط طائرة حربية روسية من نوع سوخوي – 24 من قبل مقاتلات تركية في 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015 قرب الحدود التركية السورية، حيث شهدت العلاقات التركية الروسية، بعد طيّ صفحة التوتر وعودة المياه إلى مجاريها، تحسناً كبيراً على كل المستويات السياسية والاقتصادية والعسكرية، وارتفع مستوى التنسيق والتفاهم بين الساسة الأتراك ونظرائهم الروس حيال الصراع في سوريا وعليها، وذلك على الرغم من اختلاف المواقع والتوجهات في هذا الصراع، من خلال التفاهم على إدارته ضمن سياقات إيجاد قواسم مشتركة بينهما وتدوير زوايا الاختلاف، وخاصة بعد رعايتهما إلى جانب إيران مسار أستانة، وعقدهما اتفاقات تراعي مناطق نفوذ كلا الدولتين ومصالحهما في سوريا.
وليس مفاجئاً الصمت الروسي الرسمي حيال القرار التركي وعدم التعليق عليه، بالنظر إلى أنه يعكس سلوكاً روسياً معتاداً، وإلى حاجة روسيا لتركيا في المرحلة الراهنة التي تعاني فيها روسيا من وقوف الغرب وحلفائه ضدها، فضلاً عن أنه جرى التسويق له تركياً من جهة أن وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو، ناقش القرار مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، وأن الحوار مستمر بين تركيا وروسيا بشأن تطبيق اتفاقية مونترو، التي أغلقت بموجبها تركيا مضيقي البوسفور والدردنيل بوجه السفن والبوارج العسكرية الروسية، إذ حاول الوزير التركي التخفيف من وطأة القرار الذي اتخذته تركيا، من خلال التشديد على أنه اتخذ على خلفية “النزاع في أوكرانيا”، وأنه لا يُطبق على السفن العسكرية الروسية فقط، بل على السفن العسكرية التابعة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) أيضاً.
غير أن محاولات الساسة الأتراك التخفيف من قرار إغلاق المجال الجوي التركي بوجه طائرات روسيا المتجهة إلى روسيا، لا تعني حجب الأثر الذي سيتركه على الدعم اللوجستي لتحركات روسيا العسكرية في سوريا، بالرغم من محدودية ذلك الأثر، لكن ذلك لا يفضي بنفس الوقت إلى تحميله ما لا يحتمل، عبر اعتباره خطوة في اتجاه تأزيم أو تصعيد الخلافات مع روسيا، أو وسيلة ضغط لجأت إليها تركيا بغية التأثير على التدخل الروسي في سوريا أو مناهضته.
وليس خافياً أن تركيز أنقرة في الشمال السوري، وخاصة في مناطق شرقي الفرات، منصبّ على المناطق الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تهيمن عليها وحدات حماية الشعب الكردية، ويسعى حزب العمال الكردستاني التركي إلى جعلها نقطة انطلاق في عملياته الأمنية ضد تركيا، لذلك تتكرر العمليات العسكرية التركية على تلك المناطق، وبالتالي تريد تركيا إيصال رسالة إلى روسيا من أجل توافق، أو لا تمانع على الأقل، قيامها بعمليات عسكرية جديدة في الشمال السوري ضد الوحدات التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، والتي تحاول أن تبني تفاهماً من أجلها ليس فقط مع روسيا، بل مع الولايات المتحدة، خاصة أن القرار التركي جاء بعد زيارة وفد أميركي إلى أنقرة.
بالمقابل، تمتلك موسكو موقفاً مغايراً لموقف أنقرة حيال حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ومخرجاته المدنية، ممثلة في الإدارة الذاتية، والعسكرية، ممثلة في وحدات الحماية وقسد. وهي تنسق معها في العديد من المسائل الميدانية والسياسية، ولا تكف عن بذل مساعيها الرامية إلى دمجها مع قوات نظام الأسد، لكنها بنفس الوقت لا تذهب بعيداً في علاقاتها معها إلى درجة إغضاب تركيا. ولا يمنع ذلك استهداف المقاتلات الروسية المتكرر مناطق وجود القوات التركية في الشمال السوري، الأمر الذي يفسر أن القرار التركي جاء بالتزامن مع سلسلة ضربات جوية نفذتها الطائرات الحربية الروسية، واستهدفت خلالها بعض المناطق الواقعة تحت سيطرة الجيش التركي وفصائل من المعارضة السورية المسلحة.
ولا يبتعد الرد الروسي، غير المعلن على القرار التركي، عن توجيه رسائل مضادة في سوريا، سواء على المستوى الميداني أم على المستوى السياسي، حيث لم يتأخر المندوب الروسي في مجلس الأمن، فاسيلي نيبينزيا، عن التلويح بعدم التصويت لصالح قرار تمديد دخول المساعدات الإنسانية الأممية عبر معبر باب الهوى، الذي يربط الشمال السوري الذي تسيطر عليه المعارضة السورية المسلحة مع تركيا، والذي سينتهي العمل به في تموز/ يوليو المقبل.
ومهما كانت الرسائل المتبادلة بين تركيا وروسيا، فإنها لن تسهم في تأزيم العلاقات التركية الروسية، التي شهدت تنامياً مطرداً خلال السنوات القليلة الماضية، انعكس في انتقالها إلى ميادين جديدة من التعاون والتنسيق بينهما، حيث اتسعت الشراكة والتعاون بينهما على المستوى الاقتصادي والتجاري، وخاصة في مجال الطاقة، في حين توصل ساسة الدولتين على المستوى السياسي إلى بناء تفاهمات واتفاقات في ملفات إقليمية عديدة على الرغم من التنافس بينهما، بدءاً من سوريا ومروراً بليبيا ووصولاً إلى ناغورني قره باخ، أما في المجال العسكري فتتوجت في شراء تركيا منظومة الصواريخ الدفاعية الروسية إس 400 التي أثارت جدلاً واسعاً.
وبناء على ما تقدم، فإن القرار التركي بإغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات الروسية المتجهة إلى سوريا لن يتسبب في أزمة دبلوماسية بين البلدين، وأن حيثياته قد لا تبتعد كثيراً عن تنبيه روسيا إلى مدى حاجتها لتركيا، بوصفها منفذاً مهماً لروسيا على العالم، وذلك بعد العقوبات القاسية التي فرضتها دول الغرب عليها على خلفية غزوها لأوكرانيا، لذلك تريد تركيا الاستفادة من تداعياتها لمصلحتها، وبما يخدم أهدافها الساعية إلى تحقيقها في الشمال السوري، وخاصة في منطقة شرقي الفرات.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت