أكتب الآن وأنا في القرب من ميكولايف، خط الدفاع الأول عن خيرسون. وصلنا إلى هنا قبل أسابيع في سيارات دفع رباعي، واضطررنا مرتين للخروج عن الطريق الذي سلكته من قبل قافلة قادمة من الوجهة نفسها؛ كانت هناك مدرّعات أعطبها قصفٌ أوكراني تسد حركة المرور. في الأسبوع الأخير نجونا من قصف الأوكران مرات عديدة، خاصة من مواقعهم في إيشينكا، وقد يباغتوننا بالهجوم في أية لحظة.
إذا قُتلت وعثر أحد على موبايلي، أرجو مساعدتي في إيصال هذه الرسالة إلى أهلي في سوريا، قرية “بيت عانا” التابعة لجبلة. أكتبُها على صفحتي في فايسبوك، وأرجو ممن يعثر على موبايلي فقط أن يضغط على زر النشر. عادةً أترك صفحتي مفتوحة على موبايلي، ومن الجيد أنني أفعل ذلك لأنني رغم انقطاعي عن الانترنت منذ غادرنا سوريا أستطيع تصفح صوري السابقة، وإن كنت لا أستطيع مشاهدة فيديوهات لمعارك نشرتُها عندما شاركتُ في الحرب هناك.
كنت متحمساً للتطوع في القتال، أعرف أنها ليست الكلمة المناسبة، فأنا بصراحة جئت من أجل المال. هناك في سوريا، في قاعدة حميميم كان ديمتري متفهماً ما يدفعنا إلى القتال، رغم أنه نفى علمه بدقة بالراتب الشهري الذي سنقبضه؛ كانت الأرقام المتداولة في البداية مرتفعة جداً، قيل 3000 دولار في الشهر، ثم قيل 1500، وحتى عندما انخفض الرقم إلى 600 كنت أراه مبلغاً مرتفعاً بالمقارنة مع راتب مقاتل من زملائي في الفرقة 25 للمهام الخاصة الذي يعادل 30 دولاراً.
منذ سبعة شهور فقط تركت القتال في الفرقة المذكورة. ليس من السهل في حالتنا الحصول على تسريح من الخدمة، لقد ساعدني في ذلك انتمائي إلى قرية قائد الفرقة. تعرفت على الروسي ديمتري عندما كنا نحاصر حلب، كان يشرف علينا من الخطوط الخلفية للقتال، ومرة بعد عودتنا من تنفيذ عملية ناجحة ضد “الإرهابيين” نظر إلى الدماء التي تسيل من جبهتي وسألني عن اسمي. قلت: سلمان. قال سأسميك منذ الآن إيفان، ثم كررها مقهقهاً ومربتاً على كتفي: إيفان الرهيب. من يومها صار اسمي إيفان.
لا أستطيع الجزم في ما إذا كان ضابطاً في الجيش أو قائداً في ميليشيا فاغنر، المهم أن ديمتري كان يتحدث العربية، ووجوده كان يشعرنا بحماية دولة عظمى. لقد رافق فرقتنا خلال حصار حلب واقتحامها، ثم اقتحام الغوطة، وكان يشارك في رسم خطط الهجوم، ويثني على أدائنا عندما كنا نبيد “الإرهابيين” وأنصارهم، ولديه فضول لمعرفة التفاصيل؛ مرة سأل بإلحاح عن الكيفية التي ذبحت بها اثنين بحربة بارودتي، ومرة أخرى سألني عما إذا كنت حقاً أثناء مداهمة واحد من البيوت قد اغتصبت امرأة أمام طفليها وأمام زملائي الذين سجّل واحد منهم الحادثة بكاميرا موبايله. كان يمازحنا بالسؤال عن غنائم الحرب التي كنا نأخذها بعد قتلهم، وكان يقدّر أن رواتبنا لا تكفي ثمن السجائر. عندما لم تعد هناك معارك واقتحامات وغنائم صرنا نجوع، لذا طلبت إعفائي من الخدمة.
في اجتماعنا في قاعدة حميميم لم يكن هناك مشايخ لتشجيعنا قبل الانطلاق إلى الحرب، سمعت أن بعض المشايخ حضروا إلى القاعدة وشجّعوا زملاء لنا بالقول أن هذا هو الجهاد الحقيقي لأنه ضد اليهود الذين يحكمون أوكرانيا. ربما يكون الأمر صحيحاً أو مجرد دعاية، فالجميع ذاهب هرباً من الفقر وطمعاً بالدولارات.
كان محرك طائرة أنتونوف التي ستقلّنا يصدر أصواتاً غريبة، طمأننا ديمتري بأن كل شيء على ما يرام ثم بقي هناك. لحظتها تذكرت خبر تحطم طائرة مماثلة ومقتل جميع ركابها من الجنود الروس في أوكرانيا. لم تتوقف تلك الأصوات الغريبة المخيفة حتى هبطنا في مطار عسكري في القرم، وهناك لم يُترك لنا وقت للاستراحة من ساعات الطيران الطويلة في طائرة قديمة مرهقة للجسد والأعصاب. سرعان ما جمعونا، ووقف شخص قدَّم نفسه باسم سيرغي ليرحّب بنا بجملة مقتضبة بالروسية، وليترجم لنا ما يقول شيشاني اسمه جبّاروف.
لسيرغي سحنة متجهمة، وقد بدأ حديثه بشكر الرئيس بوتين الذي سمح بقدومنا نحن المتطوعين. أكّد على أننا متطوعون ولن نقبض راتباً، مستدركاً بأننا سنحصل على مكافأة شهرية بين 200 و300 دولار شهرياً، يتم لاحقاً تسليمنا ما يعادلها بالروبل لأننا لن نحتاج المال في أرض المعركة. أضاف موضحاً: هنا إما أن تصلكم الإمدادات، أو أن تحصلوا عليها بالقوة من الأعداء النازيين. قال أيضاً: في حال مقتل أحد منكم سيُدفع لعائلته ما يعادل عشرة آلاف دولار. أضاف: أنتم تعرفون القانون؛ لا تعويض لمن يُقتل بطلقة من الخلف؛ لا تعويض لأهالي المقتولين أثناء فرارهم. ثم نظر إلينا محذّراً: هناك شرط آخر؛ ألا تسلموا أنفسكم بسهولة لرصاص العدو كي تحصل أسركم على المال.
كان كلام سيرغي يحتمل أننا لن نقبض ما حلمنا به، وكذلك حال عائلاتنا إذا قُتِلنا. وفي أحسن الأحوال، الأرقام التي ذكرها أدنى مما وُعِدنا به، وسيتم الدفع بعملة محلية لا قيمة لها. الأسوأ من ذلك أنه تركنا مع جباروف الذي استلم قيادتنا، وطلب منا بفظاظة فتح حقائبنا وخلع ملابسنا في البرد القارس للخضوع لعملية تفتيش، ثم أوعز لعناصر تابعين له بتفتيشنا بدقة. صادروا منا مشروبات الطاقة، ولم يتوقفوا عند احتجاجاتنا وهم يصادرون حبوب الكبتاغون. حسمَ جباروف الأمر بالقول: لو أنكم مرضى تحتاجون هذه الحبوب لما أتوا بكم إلى القتال. صادروا أيضاً موبايلاتنا وكل جهاز فيه كاميرا. الذي فتش ثيابي تغاضى عن الموبايل، وأعتقد أنني لست الوحيد الذي نجا بموبايله.
قسمونا نحن السوريين إلى مجموعات سيذهب كل منها في اتجاه مختلف، وقال لنا جباروف بفظاظة: ودّعوا رفاقكم فقد لا تلتقون أبداً. توادعنا من دون أمل باللقاء، وأوصى كل منا أقرب رفاقه إن كُتبت له الحياة أن يزور أهله، ويوصل إليهم تحيات ابنهم القتيل. دمعت عيوننا أنا وصديقي بهجت لحظة الوداع لأنه سيذهب مع مجموعة أخرى، فهو كان يقنعني منذ قررنا المجيء بأن نحصل على الدولارات ونهرب معاً عبر بولندا أو رومانيا، وصولاً إلى ألمانيا أو فرنسا لنطلب اللجوء ونبقى للعيش هناك. كانت مجموعتنا من حصة جباروف وفصيله، لم يخبرنا بوجهتنا، من تكرار اسم المدينة بينه وبين عناصره الشيشان عرفنا أننا ذاهبون إلى خيرسون.
أكثر ما كنا نحتاجه وقتَ وصلنا إلى خيرسون، حيث نرابط الآن، هو النوم لساعات طوال. كان لجباروف رأي آخر، إذ أتى لإيقاظنا من أجل أداء صلاة الفجر. فوجئنا بالأمر، قلت له أننا لا نصلي، فسأل: أأنتم مسيحيون. أجبنا بالنفي. سأل باستنكار: أأنتم يهود؟ أجبنا بالنفي أيضاً. نظر إلينا بغضب ومضى، لنسمع بعدها أصواتهم وتكبيراتهم وهم يصلون معاً. عندما كنا نقاتل في سوريا، ونسمع أصواتاً مشابهة في الجهة الأخرى، كنا نفتح نار رشاشاتنا على من يصدرونها. الآن عليّ أن أنفذ الأوامر التي أتلقاها منهم، وربما يفكرون هم بقتلنا لأننا كفار لا نصلي مثلهم!
عصر اليوم، أتوا بسوريين من فرقتنا نجوا من معارك خاركيف، وعلمت منهم أن صديقي بهجت قد قُتل هناك؛ أسرّ لي واحد منهم أنه قُتل وهو يحاول الهرب إلى الجهة الأخرى. عصر اليوم أيضاً، وكما حدث طوال الأيام الأخيرة، شاهدنا ناقلات تقلّ ضباطاً وعناصر روس إلى الخلف، إلى الضفة الشرقية لنهر دنيبرو. أخبرونا بقرب وصول تعزيزات إضافية، لكننا لم نشاهد سوى قوافلهم الذاهبة إلى الخلف. أنا الآن سهران وحزين جداً على صديقي بهجت، وربما بعد قليل يأتي جباروف ليكرر دعوته لنا إلى صلاة الفجر ثم ينصرف غاضباً منا. أرى الجهة المقابلة مثلنا غارقة في الظلام، وأعرف أنها ليست نائمة، وأن هناك مقاتلين لا نعلم من أين سيخرجون ليهاجموننا. أشعر بخوف شديد من الصمت المرعب المحيط بي، أشعر بخوف من جباروف وجماعته. أحتاج الكبتاغون بشدة لينقذني من خوفي، لأثق بأنني سأقتل هؤلاء المنهمكين في إعداد الخطط لمهاجمتنا، أحتاجه لأسترد تخيلاتي عن الأوكرانيات اللواتي سأضاجعهن لحظة النصر.
كأنه كان حلماً وانتهى بسرعة؛ لا دولارات أعود بها إلى أهلي الفقراء الجوعى، لا انتصارات وغنائم ونساء، لا كبتاغون لأطير فوق ذلك كله وأنسى. أشعر بأنني سأموت هنا مع أول اشتباك، ولا فرصة لي للتراجع، ولن أكلّف جباروف سوى طلقة في مؤخرة رأسي إذا حاولت الهرب. أكتب رسالتي على أمل وحيد؛ أن ينجو موبايلي ويعثر الأوكران على رسالتي، فأنا واثق من أن مَن جئت لأقاتل معهم سيمحون أي أثر لي.
*الفرقة 25 مهام خاصة هي المعروفة أيضاً باسم “قوات النمر”، بقيادة سهيل الحسن. حسب الأنباء الواردة مؤخراً ينتشر عناصر منها في خيرسون، وفي إقليم دونيتسك بعد الانسحاب من خاركيف. حسب الأخبار الواردة قبل ثلاثة أيام، قُتل حوالى عشرة من عناصر النمر حتى الآن في معارك خيرسون الأخيرة، وسط تكتم من إعلام الأسد والإعلام الروسي على مشاركتهم في الحرب.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت