في الوقت الذي كانت الولايات المتحدة تفاوض فيه روسيا، في مجلس الأمن، على التجديد للآلية الأممية لإدخال المساعدات عبر الحدود إلى سوريا من غير المرور عبر قنوات النظام الكيماوي، كانت روسيا تفرض حصاراً قاسياً على درعا البلد لا يسمح بدخول أي مواد غذائية أو طبية أو غيرها.
دخل الحصار يومه السابع عشر ولا أفق لفكه ما لم يخضع السكان ويسلموا 200 بندقية نص اتفاق “خفض التصعيد” في العام 2018 على بقائها في أيديهم بغرض الدفاع عن النفس. أي أن الأمر لا يتعلق بما يمكن أن يسميه الروس أو عاملهم في دمشق بالإرهاب، بل بسكان لا ثقة لهم بأن النظام لن ينكل بهم لحظة يدرك أنهم باتوا عزّلاً من أي سلاح. وهو ما يفعله، على أي حال، فالاعتقالات لم تتوقف، والاغتيالات لم تتوقف بحق من كانوا يحملون السلاح قبل استسلامهم وفقاً للصفقة الأميركية الروسية.
مع ذلك يملك البلطجي الروسي من الوقاحة ما يجعله يتعامل مع المساعدات الإنسانية كموضوع للابتزاز. فقد كرر الدبلوماسيون الروس، قبل انعقاد جلسة مجلس الأمن المخصصة لهذا الموضوع، رفضهم للتجديد للآلية المذكورة، وبديلهم المعلن هو وجوب مرور المساعدات عبر النظام، النظام الذي طالما استخدم، وما زال يستخدم، الحصار والتجويع سلاحاً حربياً ضد السكان المدنيين، تحت شعاره المعروف: “الجوع أو الركوع”!
فعلاً يتطلب الأمر وقاحة استثنائية حين تشترط روسيا أن تتجه المساعدات الإنسانية، التي تقدم الدول الغربية 92% منها كما قال ممثل فرنسا في مجلس الأمن، إلى النظام الذي يستخدم الحصار، أي الحرمان من دخول المواد الأساسية للسكان المحاصرين، سلاحاً للتركيع! مع ذلك هذا غير مستغرب من قاتل اعتاد على استهداف المشافي والمؤسسات الطبية بسلاح الطيران.
إنما المستغرب هو خضوع “المجتمع الدولي” لابتزاز هذا القاتل. يفاوضونه أياماً ليسمح لهم بعبور المساعدات عبر معابر لا يملك السيطرة عليها أصلاً! هل يصعب على الدول الغربية التي تقدم 92% من تلك المساعدات أن تتحرر من عبء الأمم المتحدة واضطراراتها بشأن “احترام سيادة الدول” (كذا!) فتنشئ آلية مستقلة عنها بين الدول الراغبة لتستأنف إدخال المساعدات، فتكون بذلك قد سحبت من يد روسيا كل ذرائعها ؟ أو يمكنها هي أن تمارس الابتزاز بأن تمتنع عن تقديم أي مساعدات ما دامت روسيا تسعى لفرض شروطها بشأن طريقة إدخالها.
غير أن الأمور ليست بهذه البساطة. فروسيا تملك بدورها خيارات من شأنها أن تحشر خصومها في الزاوية: حسناً، ما دمتم غير مكترثين بمصير المدنيين فسوف أستأنف حربي على الإرهاب في محافظة إدلب وجوارها التي تسيطر عليها “هيئة تحرير الشام” الإرهابية، الأمر الذي سيؤدي إلى كارثة نزوح بشري كبير سيصطدم بالجدار العازل الذي بنته تركيا على طول الحدود. وسيتعين عليكم أن تجدوا حلاً لهذه المشكلة. أي أنكم بعد أن تتحملوا المسؤولية الأخلاقية عن حرمان المدنيين المحتاجين من المساعدات، ستعودون صاغرين لتطرقوا بابي وتعلنوا رضوخكم لشروطي.
ذلك أن الأنظمة الدكتاتورية الإجرامية كروسيا تملك قوة لا تملكها حكومات ديموقراطية منتخبة من شعوبها. إنها قوة التحلل من أي اعتبارات أخلاقية أو إنسانية. بالمقابل مهما بلغت الحكومات الديموقراطية من الفساد والانحطاط فهي مضطرة للالتزام ببعض القيم، ولو من باب التظاهر، أمام الرأي العام. تستطيع روسيا أن تقصف المستشفيات ثم تنكر فعلتها مهما توفر من أدلة لا يمكن دحضها، في حين أن المخابرات المركزية الأميركية تمارس التعذيب على المعتقلين بتهمة الإرهاب في سجون سرية في بلدان خارج الولايات المتحدة، وحين يتم اكتشاف ذلك من قبل صحافيين أميركيين تكون الإدارة الأميركية أمام فضيحة، وتتم الإطاحة برؤوس كبيرة.
على رغم هذا الفارق النوعي في عوامل القوة، وعلى رغم امتلاك روسيا لأوراق كثيرة في مواجهة خصومها الغربيين، سواء في سوريا أو في أماكن ومواضيع أخرى، يبقى أن عامل الضعف الأساسي لدى واشنطن في موضوع المعابر الحدودية الذي تم التصويت عليه في مجلس الأمن، إنما هو انخفاض سقف السياسة الأميركية في سوريا إلى مستوى اختزال المسألة السورية إلى إدخال مساعدات إنسانية. فهذا ما أعلنه وزير الخارجية بلينكن في اجتماع روما، وما كررته مختلف المراجع في إدارة جو بايدن. وكأنه ليس هناك قرار من مجلس الأمن (2254) بشأن حل الصراع في سوريا يبدأ بانتقال سياسي، وكان ثمة جدول زمني واضح توافق عليه أعضاء المجلس في أواخر العام 2015، بحيث يتم طي صفحة الصراع في غضون عامين.
استطاعت روسيا، في غضون السنوات السابقة، أن تغير الوقائع على الأرض بهجماتها الهمجية، ومن غير أدنى اكتراث بقتل المدنيين وتهجيرهم، فأعادت للنظام مناطق واسعة كانت خارج سيطرته. وبعد إسقاط شرقي حلب في أواخر العام 2016، بالحصار والقصف المستمر طوال شهور، وضعت قرارات مجلس الأمن جانباً و”ابتكرت” مسار آستانة بديلاً من المسار الأممي، و”مناطق خفض التصعيد” بدلاً من وقف إطلاق النار الشامل، و”اللجنة الدستورية” بدلاً من الانتقال السياسي، ثم راحت تعمل على إعادة تعويم النظام المجرم في المحافل الإقليمية والدولية، وتطالب بتمويل إعادة إعمار ما دمره طيرانه وصواريخه بالذات… كل ذلك تحت أنظار “المجتمع الدولي” الذي لا ينقصه إلا أن يشكر روسيا على توليها أمر الصداع السوري، من خلال تجريب كل أنواع السلاح الروسي في أجساد السوريين، مع الإعلان المتكرر الوقح عن أن “الحل في سوريا لا يمكنه أن يكون إلا سياسياً”!
ما دام الحال هكذا، وبما أن برنامج إدارة بايدن لسوريا يقتصر على تقديم المساعدات الإنسانية، فلا غرابة إذا تحولت هذه إلى مادة ابتزاز، الطرف القوي فيها هو روسيا.
يبقى أن ما قاله المندوب الروسي في مجلس الأمن، بعد انتهاء التصويت على إدخال المساعدات عبر معبر باب الهوى الحدودي، كان لافتاً في التعبير عن “الوجع الروسي” تجاه الولايات المتحدة. فقد قال إن ما حدث من توافق أميركي روسي بشأن التصويت يتمتع بأهمية تاريخية! فبعيداً عن الطابع الإجرائي لموضوع التصويت، تعتبر روسيا بوتين مجرد سعي واشنطن للتوافق معها اعترافاً أميركياً بأهميتها كقوة عظمى يحسب لها الحساب!
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت