لم يخرج من قمة الرئيسين الأمريكي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين دخان أبيض، وبالأصل لم يكن أحد ينتظر حصول توافقات بين الطرفين في هذه القمة، وعلى وقع حزم من الخلافات والتناقضات خلص الطرفان إلى ضرورة متابعة الحوارات عبر الأقنية الرسمية.
ليس سراً أن التحضيرات للقمّة ركزت، بشكل مبالغ به، على شكليات التفاوض وليس على محتوياته، وهو ما بدا أنه انتصار للطريقة الروسية في التفاوض، والتي تعطي أهمية كبيرة لدور المؤثرات النفسية في سلوك المفاوض المقابل مما يدفعه إلى تقديم تنازلات في ملفات التفاوض. وقد استخدم بوتين هذا الأسلوب مع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في القمة الشهيرة بينهما في هلسنكي تموز/ يوليو 2018.
حضر الأمريكيون إلى جنيف بورقة شروط صاغها فريق بايدن؛ توضّح الخطوط الحمراء التي على روسيا الحذر من الاقتراب منها، وتركزت جهودهم على كسر أسلوب بوتين في التفاوض وإخراجه خالي الوفاض من أي أرباح ولو كانت معنوية. ومن أجل ذلك لم يوافق الطرف الأمريكي على عقد مؤتمر صحفي مشترك بين الرئيسين خوفاً من أخطاء وهفوات قد يرتكبها الثمانيني بايدن؛ الذي لم يميز بين ليبيا وسوريا قبل أيام من انعقاد القمة، وبالتالي يتاح لبوتين فرصة الظهور بمظهر الزعيم المدرك والواعي لمسارات السياسة الدولية.
حضرت أمريكا إلى القمة لإبلاغ روسيا جملة واحدة، يتفرع عنها بعض العناوين الفرعية، الجملة الأساسية كانت: نحن ذاهبون للشرق الأقصى، إلى المحيط الهادئ، وسنقضي هناك سنوات وربما عقوداً، أما اللعب في الملاعب التي سنخليها فسيكون على الشكل التالي: أوروبا، الغربية والشرقية، ممنوع عليكم الاقتراب منها، وأي محاولة روسية في هذا الاتجاه ستتم مقابلتها برد عنيف وسريع.. أفريقيا، وخاصة جنوب الصحراء، لكم الحرية في التصرف والتمدّد، هذه المنطقة باتت خارج اهتماماتنا، وآسيا الوسطى منطقة خاصة بكم وبتركيا، أديروها بالطريقة التي تعجبكم.
بالنسبة لأمريكا، تشكّل أفريقيا ومناطق آسيا الوسطى وصفات مهمة لاستنزاف روسيا، وبالفعل تنزف روسيا في أفريقيا وتحقّق خسائر كبيرة، لا يتم الإعلان عنها، وخاصة في أفريقيا الوسطى، حيث تدعم الرئيس فوستين أرشانج تواديرا، في وضع مشابه لدعمها لبشار الأسد، لكن الفارق أن روسيا التي استطاعت تأمين العاصمة بانجي، لا تزال تواجه تهديدات كبيرة من الأرياف، كما أنها تقود حرباً طائفية ضد الأقلية المسلمة في تلك البلاد.
أما فيما يخص الشرق، ليس هناك وضوح أمريكي، إذ رغم سحب الأسلحة والمعدات وتخفيض الميزانيات الخاصة، لا زال لأمريكا وجود، حتى ولو كان رمزياً فهو كاف لموازنة القوّة الروسية، بالإضافة إلى حقيقة مهمة، وهي أنه يصعب على روسيا، إن لم يكن مستحيلاً، بناء نفوذ قوي في هذه المنطقة باستثناء سوريا، ذلك أن النفوذ الأمريكي أبعد من الحضور المباشر، وهو موجود على مستوى العلاقات العسكرية والاقتصادية والتسليحية على مدار عقود، وكذلك على مستوى المساعدات المالية المباشرة التي تقدمها أمريكا لبعض دول المنطقة، وهو ما لن تستطيع روسيا أن تشكّل بديلاً له، لا اليوم ولا في المستقبل.
وليس خافياً أن إدارة بايدن تعاملت مع روسيا بوصفها قوّة إقليمية ليس أكثر، إذ لم يذهب بايدن إلى القمة بهدف عقد صفقات مع بوتين، ولكن ليوجه له تحذيرات، بوصفه طرفاً مشاغباً وليس نداً.. أراد أن يقول لبوتين: دعك من البهلوانيات التي تمارسها، وعن الادعاء بأنك تملك أسلحة منافسة، نحن نعرف حجم قوتكم الحقيقية من خلال معرفتنا بنقاط الضعف الكثيرة لمنظومات سلاحكم، وقد اختبرناكم في سوريا عبر المجزرة التي حققتها قواتنا بمرتزقة فاغنر غربي الفرات، والتي قتل فيها أكثر من 200 عنصر من هذه القوّة، كما أن تركيا، العضو في الناتو، استطاعت تحجيمكم في سوريا وليبيا وأرمينيا، دون حتى أدنى مساعدة من الحلف.
لقد رسمت قمة بايدن- بوتين خرائط وحدود التحرك الروسي، المنطقة التي بقيت عمياء في هذا الإطار هي الشرق الأوسط، ربما لمعرفة أمريكا حدود قدرة روسيا العسكرية والمالية، ولوجود لاعبين لا يمكن لروسيا تجاوزهم، بحجم تركيا وإسرائيل، بالإضافة إلى إيران الصديق اللدود لروسيا والتي تقاسمها النفوذ في سوريا، وبالتأكيد لن تسمح (إيران) لها بالتمدّد صوب العراق، وستنقلب علاقاتها مع روسيا لحظة يفك الغرب الحصار عنها ويرد لها أموالها، لتعيد بناء قوتها في وجه روسيا في سوريا.
أمريكا راحلة من الشرق الأوسط، وروسيا قادمة، لكن بشروط ومحدّدات أمريكية، حتى في سوريا لن تستطيع روسيا “أخذ راحتها”، إذ يبدو أن القرار الأمريكي بمحاصرة نظام بشار الأسد، نهائي لا رجعة عنه، حتى لو كانت أساطيل أمريكا تقبع في المحيط الهادئ على بعد آلاف الأميال من الشرق الأوسط.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت