عندما تهدأ الحرب السورية على جميع الجبهات، يبدأ الروس في توسعة قاعدتهم حميميم جنوب شرق مدينة اللاذقية. لم يتوقع أحد منهم العودة إلى بلادهم فورا بعد “نجاحهم” في سحق الثورة ضد “الرئيس” بشار الأسد، ولكنّ الكثيرين اعتقدوا أن حضورهم إلى سوريا لن يتجاوز حدود الحفاظ على موطئ قدم على ساحل المتوسط.
موسكو تريد جعل قاعدة حميميم أكثر فاعلية، وتعمل على تأهيل بنيتها التحتية حتى تكون قادرة على استقبال مختلف أنواع الطائرات، فتحط فيها المقاتلات والقاذفات الاستراتيجية وطائرات الشحن العملاقة القادرة على حمل عتاد جيش كامل من جنود ومروحيات ودبابات ومختلف الأسلحة المستخدمة على خطوط الهجوم.
مثل هذا التطوير الذي يسعى إليه الروس في حميميم يكشف بوضوح عن ثلاث نقاط، الأولى هي أن موسكو تبحث عن إقامة دائمة في سوريا، والثانية أنها تريد للساحل السوري أن يكون بوابتها على الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والثالثة أنها تمتلك استراتيجية واضحة إلى حد كبير في المنطقة، على عكس ادعاء البعض.
ثمة من يعتقد بأن الوجود العسكري الدائم في سوريا هو استنزاف للروس على المدى الطويل. هذا التخوّف كان موجودا فعلا لدى موسكو عندما جاءت بقواتها ومقاتلاتها عام 2015، ولكنها احتوته مع الوقت، وتوسعت على الساحل الشرقي للمتوسط بكثير من الحكمة والتعلم من التجارب السابقة التي تورطت فيها مع الغرب.
ربما قدم الروس في البداية لهدف محدود لا يتجاوز حماية قاعدتهم في طرطوس، موطئ قدمهم الوحيد على المتوسط. وحضورهم إن لم يأتِ بتنسيق مباشر مع الولايات المتحدة، جاء بغض الطرف من قبل واشنطن وحلفائها الغربيين على أقل تقدير. هم لم يرغبوا في التورط عسكريا في سوريا ولكنهم احتاجوا لمن يدعم الأسد ويحميه.
تجارب الروس في مصارعة الأميركيين والأوروبيين بعيدا عن حدود بلادهم وخارج القارة العجوز لا تشجّع كثيرا. صور المستنقع الأفغاني كانت حاضرة في مخيلتهم عندما قدموا إلى سوريا، ولذلك مارسوا نزقهم، واستعرضوا قوتهم خارج مناطق نفوذ القوات الأميركية والتحالف الذي تقوده هناك لـ”محاربة” تنظيم داعش.
كان الروس يقتلون من السوريين ويجرّبون من الأسلحة في حدود المهمة التي أوكلت لهم في المحافظة على نظام الأسد ومنع انهيار مؤسسات “الدولة” السورية. وكلما كانت موسكو تحاول تجاوز الخطوط الحمراء لها على الأرض كان الرد يأتيها سريعا عبر أشكال مختلفة، منها ما هو سياسي ومنها العسكري والاقتصادي.
إضافة إلى الالتزام بحدود المهمّة الغربية، كان على روسيا إثبات دعمها لتل أبيب في جميع مراحل الحرب السورية. لذلك فتحت الأجواء هناك أمام المقاتلات والصواريخ الإسرائيلية لتصطاد على أرض سوريا كلما تشاء وحيثما تشاء ومتى تشاء. ليس فقط الفرائس الإيرانية وإنما كل ما تشعر بأنه يهدد أمنها أو يزعج حدودها.
هناك محدد ثالث في الحضور العسكري كان لزاما على روسيا مراعاته في سوريا. وهو تفهّم مخاوف تركيا في ما يتعلق بأمنها القومي على حدودها الجنوبية. قد تكون هذه المخاوف محض ادعاء ولا أساس لها واقعيا، ولكن كان ولا يزال، على موسكو توخي الحذر عندما تقترب من الحدود الجنوبية لحلف شمال الأطلسي (الناتو).
استنادا إلى هذه المحددات الثلاثة بُنيَ قرار روسيا في القدوم إلى سوريا بكل هذه القوة العسكرية. وبالتالي اعتمدت استراتيجية موسكو في البداية على التمكين وليس التوسع في المنطقة. ومن أكثر الفوائد التي حصدتها وفق هذه الاستراتيجية هو الإعلان عن نفسها بديلا مثاليا لأي فراغ يحدثه الأميركيون والأوروبيون في المنطقة.
الإعلان وجد أصداء إيجابية لدى جميع دول المنطقة، وأبرز الفرص التي أفرزها هي دعم الجيش الليبي. هناك أبواب أخرى فتحت لروسيا في بيع وتصدير الأسلحة إلى دول عربية عديدة بعد “نصرها” في الحرب السورية، كما وقعت موسكو في ديسمبر الماضي اتفاقية مع الخرطوم لتشغيل منشأة في بورتسودان على البحر الأحمر، لتكون أول قاعدة عسكرية بحرية روسية في أفريقيا منذ العهد السوفييتي.
يمكن القول إن الاستراتيجية الروسية في سوريا مرت بثلاث مراحل منذ 2015. في البداية كانت تملأ الفراغ الذي تقَّصده الأميركيون والأوروبيون دون زيادة أو نقصان، أما المرحلة الثانية فتركزت على نسج التحالفات والتفاهمات من أجل توسعة الحضور الروسي في المنطقة شرط ألا يكون على حساب الولايات المتحدة.
في المرحلة الثالثة التي بدأت مع مطلع 2020، أصبحت موسكو تتجرأ على محددات الأميركيين والأوروبيين في سوريا. راحت تخطّط لحضور أكبر هناك وفي المنطقة العربية ككل، لا يتصف بالديمومة فقط، وإنما يشكل مصدر تهديد لمصالح الغرب في القارتين الأوروبية والآسيوية في سياق توقع مستقبلي للتفاوض معهم.
يريد الروس اليوم زيادة أوراق تفاوضهم مع أميركا وأوروبا في جميع ملفات الخلاف بينهم، فاختاروا توسعة حضورهم في الشرق الأوسط والقارة السمراء كورقة ضغط على خصومهم. تدرك موسكو خطورة مثل هذه الاستراتيجية وهي تخطو باتجاهها بهدوء وحذر شديدين، ولكن ذلك قد لا يكفي لتجنّب المواجهة مع الغرب.
لقد أدرك الأوروبيون نوايا روسيا مبكرا، ولكن المواجهة معها كانت تنقصها إدارة أميركية تؤمن بالتحالفات العابرة للحدود، وعندما تسلم الرئيس جو بايدن مفاتيح البيت الأبيض أعلنوا حربا دبلوماسية وسياسية عليها عبر قضية المعارض أليكسي نافالني، فقط ليوصلوا لها رسالة مفادها أن خططها وتحركاتها مكشوفة جدا لهم.
تلقت موسكو الرسالة الغربية بكل قسوتها، ولكنها لا تزال تحاول الصمود مستغلة هذا الوقت الذي يسيطر فيه الملف النووي الإيراني على أولويات الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وفرنسا. لا شك أنها ستسعى جاهدة خلال هذه الفترة إلى تنفيذ خططها التوسعية المرسومة في الشرق الأوسط والمنطقة العربية، ولكن هل تسعفها الأدوات؟
النظام السوري يطرق الأبواب لاستبدال روسيا بأميركا وإسرائيل، والأتراك يؤسسون لتواجد عسكري دائم في إدلب على بعد خطوات من قواعد موسكو على المتوسط، والدول العربية منشغلة بتحسين علاقاتها مع الإدارة الأميركية الجديدة، والإيرانيون يسعون إلى اتفاق نووي جديد يفتح لهم أبواب الشرق الأوسط مجددا. وسط كل هذه المعطيات المعقدة توسع موسكو مدرجا لاستقبال الطائرات الاستراتيجية في حميميم، ولكن ربما لن تستخدمها إلا لشحن أوهامها الكبيرة في المنطقة والعالم ككل.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت