ما قبل السادس من شباط عام 2023 ليس كما بعده، فهذا التاريخ الذي حدث فيه الزلزال الكبير، الذي ضرب عشر ولايات في الجنوب التركي إضافة إلى شمال سورية، ضرب أيضاً الحسابات السياسية للقوى والأحزاب التركية المختلفة، في وقت بدا فيه أن الحزب الحاكم (التنمية والعدالة) سارع لمواجهة الكارثة رغم جسامتها، فكان هدفه الأكبر إنقاذ أكبر عددٍ ممكن من العالقين تحت الأنقاض، وإيواء الملايين ممن تهدمت أو تصدعت بيوتهم، وتأمين مستلزماتهم المعاشية.
هذا الحدث الكارثي كلّف الدولة التركية خسائر قدّرتها بعض الجهات الدولية المختصة (البنك الدولي) بحدود مئة مليار دولار، وهو رقم لا بدّ أن ينعكس بصورة أو أخرى على حياة المواطن التركي، كما أنه سيؤثر على خطط التنمية المدرجة في جداول الحكومة. ولكنّ الأهم في الأمر، كيف ستكون تداعيات الزلزال السياسية في ظلّ انتخابات رئاسية وبرلمانية قريبة، وكيف ستكون تداعيات الزلزال الاقتصادية؟ وما الخطوات المتاحة لمواجهة تبعاتها؟
سياسياً، استطاع حلف الرئيس رجب طيّب أردوغان قبل الزلزال، سحب ورقةٍ كانت تتداولها أحزاب المعارضة، وهي ورقة وجود السوريين في تركيا، حيث تمّ الإعلان عن محادثات رعتها روسيا في موسكو، حضرها مسؤولون عسكريون وأمنيّون من تركيا وعسكريون وأمنيّون مثّلوا نظام أسد في هذه المحادثات. هذه الرؤية الذكية لحكومة حزب العدالة والتنمية أحبطت مسعى المعارضة التي مثلتها أحزاب (الطاولة السداسية) لأجل إظهار أن سبب مشاكل تركيا الاقتصادية يقف خلفه وجود ثلاثة ونصف مليون سوري في تركيا تحت ما يسمى (نظام الحماية المؤقتة).
ولكن، هل هذه الورقة الخاصة بضرورة إعادة اللاجئين السوريين إلى بلدهم هي ورقة صالحة لكسب الانتخابات في ظروف ما قبل الزلزال؟ إن الجواب على هذا السؤال تدركه المعارضة السياسية التركية، وهي إن إعادة اللاجئين لا يمكن أن تتم في ظروف تشكّل خطراً عليهم، وهذا ما أظهرته الحكومة في رؤيتها، حيث اعتبرت أن عودة آمنة للاجئين السوريين هي حق لهؤلاء، وهذا يعني إعادة إنتاج الوضع السياسي والأمني بطريقة تقارب القرار الدولي الخاص بالصراع في سورية رقم 2254 / 2015، وهذا يحتاج إلى ظروف تتوفر في الساحة السورية وبضمانات دولية.
لقد بدا أن المعارضة التركية فقدت دافعة دعايتها السياسية بعد سحب ورقة اللاجئين من يدها، لكن هذه المعارضة وجدت فرصة في الزلزال لاستثماره في الانتخابات القادمة، حيث جاهرت ببطء الحكومة في مواجهة الكارثة، وقد وضعت ثقل دعايتها في هذا الجانب، حيث ظنّت أن حكومة اردوغان ستضطر إلى تأجيل الانتخابات لمدة ستة أشهر من موعدها، وهذا يعني خرق الحكومة للدستور الذي لا يسمح بتأجيلها إلا في حالة الحرب.
لكن الرئيس اردوغان فعل غير ما ظنّت به هذه المعارضة، حيث أعلن موعد الانتخابات لتجري في الرابع عشر من أيار / مايو، بدلاً من موعدها في الثامن عشر من حزيران / يونيو.
وهذا يعني أن المعارضة لم تقرأ بعمق رؤية أحزاب التحالف الحكومي (حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية) في تقريب الموعد، وهو أمرٌ أربكها ودفعها لتأجيل موعد إعلان مرشحها الذي سيواجه الرئيس أردوغان، قبل أن تستقر على زعيم حزب الشعب الجمهوري، كمال كليجيدار أوغلو.
إن واقع الانتخابات في تركيا لا يتعلق بالنسبة للشعب التركي بشكل نظام الحكم، ما دام هذا النظام نظاماً ديمقراطياً يحتكم لصناديق الانتخابات، بل يتعلق بقدرة نظام الحكم الفائز بهذه الانتخابات بدفع عربة التنمية الوطنية الشاملة، هذه التنمية نهض بها حزب العدالة والتنمية منذ تسلمه السلطة في البلاد ديمقراطياً عام 2002.
هذا الفيصل لا يبدو أن الطاولة السداسية تمتلك برنامجاً له، فهي لا رؤية لديها بشأن التنمية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية وغيرها من أبواب التنمية، إنما هدفها الرئيس إسقاط حكم حزب العدالة والتنمية وفي مقدمة ذلك إسقاط الرئيس رجب طيّب أردوغان، ولهذا فهم يروّجون لفكرة إلغاء النظام الرئاسي إذا ما فازوا بالانتخابات، وقصدهم أن النظام الرئاسي أقل ديمقراطية من النظام البرلماني.
رؤية المعارضة هذه لم تجد لها صدىً في استطلاعات للرأي قامت بها جهات مختصة في تركيا، فآخر استطلاع بعد الزلزال أجري في الأيام الأولى من شهر آذار / مارس أعطى أردوغان نسبة 49% من الذين شملهم الاستطلاع، بينما حصل رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض كمال كليتشدار على ما يقارب نسبة 22% من الذين استطلعت آراؤهم.
هذه النسبة قابلة للتغيّر مع اقتراب موعد الانتخابات، سيما وأن الطاولة السداسية برزت غير متماسكة في تحالفها، بعد خروج ثم عودة حزب “الجيّد” الذي تترأسه ميرال أكشينار، الرافضة ترشيح زعيم الحزب الجمهوري لمنافسة أردوغان.
وفق هذه الوقائع، يمكن استخلاص أن الشعب التركي يهمه مكاسب حياتية واستقرار اقتصادي ورفاه معيشي أنجزه حزب العدالة والتنمية خلال فترة حكمه التي بدأت منذ عام 2002 ولا تزال مستمرة، وهذا يعني، أن قوة الدفع التاريخية للطبقة الوسطى التركية، لم تستنفذ بعد دورها التاريخي في برنامجها تطوير تركيا، وتحقيق تنميتها الكبرى بكل أنساقها.
لهذا لا نعتقد أن فرصة الزلزال ستمنح المعارضة التركية فرصة تحقيق نصرٍ على تحالف العدالة والتنمية مع الحركة القومية، بل على العكس من ذلك، فإن الشعب التركي لا يريد شعارات جوفاء لا تطعمه خبزاً، بل يريد واقعاً ملموساً لا يجعله خائفاً من غده المعاشي والاقتصادي واستقلال البلاد، وهذا سيترجمه صندوق الانتخابات في الرابع عشر من أيار القادم، وهو تاريخ أول انتخابات متعددة الأحزاب في تاريخ تركيا، والتي جرت في الرابع عشر من أيار عام 1950، حيث فاز بها عدنان مندريس رئيس الحزب الديمقراطي آنذاك، وهذا التاريخ أراد من خلاله أردوغان أن يقول إن الشعب التركي سينحاز لتحالفه، كما انحاز قبل ثلاثة وسبعين عاماً لمندريس.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت