نقلت مصادر “العربي الجديد” من أوساط اجتماع جدة أنه كان من المقرر حضور الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، إلا أنه كلّف رئيس الحكومة أيمن عبدالرحمن، اعتراضاً على دعوة الرئيس الأوكراني للحضور، من دون التشاور مع الجزائر بصفتها صاحبة الرئاسة الدورية حتى تسليمها للبلد المضيف الحالي. أي أن النظام الذي كان سبّاقاً بمحاولته إعادة الأسد إلى الجامعة العربية، منذ اجتماع الجزائر، يعترض على حضور ضيف كالرئيس الأوكراني الذي يقود بلداً يدافع عنه أبناؤه بشرف وبسالة ضد الغزو الروسي. أما مجيء الاعتراض من باب الشكليات فلا يغيّر في الجوهر المنسجم تماماً؛ إذ سيبدو بديهياً أن مَن يحتفي بإعادة الأسد سيغصّ بحضور زيلينسكي ضمن رهط المحتفلين بعودة الأول.
من المفهوم ألا يفوّت زيلينسكي فرصة مهما كانت لحضور الاجتماعات والمؤتمرات من أجل طرح قضية بلاده، حتى إذا كان اجتماعاً لا يُرتجى منه كاجتماع جدة. وحضوره لا يعني إطلاقاً أنه غافل عن كون الدعوة لا علاقة لها بالمبادئ والأخلاقيات الداعمة لشعب احتل بوتين قسماً من أراضيه ويسعى إلى احتلال أجزاء أخرى، وإلى فرض حكم عميل له في أوكرانيا كلها. من المستبعد أن يكون زيلينسكي غافلاً عن أن المُراد بدعوته إرسال إشارة إلى واشنطن والغرب عموماً، لإقامة قليل من التوازن مع إعادة بشار التي احتفلت بها موسكو وطهران.
الأخير كان واضحاً في كلمته ودحض ما يُشاع عن سياسة الخطوة بخطوة تجاهه، فتحدث جازماً عن عدم السماح للجامعة العربية بالتدخل ما لم يكن بطلب منه، ولخّص الكارثة السورية بالمؤامرة الغربية وبالزحف العثماني الجديد! هذه كانت هديته لمستضيفيه، وهي متوقعة لأي متابع لنهجه، وقد أشار صادقاً إلى الوقت المحدود المعطى لكل متحدث، ولولا ضيق الوقت لكان أسهب في تفنيد كل ما يُقال عن إعادته إلى “الحضن العربي” بوصفها سياسة استيعاب واحتواء ستدفعه إلى تقديم تنازلات.
لقد عمل إعلام الدولة المضيفة على تصوير اجتماع جدة وما سبقه كصفحة جديدة من مدّ الجسور والمصالحات، بالإشارة إلى المصالحة السعودية-الإيرانية، ثم إلى إعادة بشار الأسد إلى الجامعة العربية، مع التنويه بجهود مصالحة في اليمن والسودان. وفي تصوير هذا الزخم، والمبالغة فيه وفي نتائجه، تأتي إعادة الأسد كأنها عملية مشابهة لتلك المصالحات، وكأنما لم تكن هناك قرارات للجامعة ضده أدت إلى تجميد عضويته، ولم يرتكب المجازر التي أدانتها الدولة المضيفة يومَ كانت تصرّ على إسقاطه.
الأسوأ هو تسويق إعادة بشار كأنه انتصار للساعين القدامى والجدد إلى ذلك، ليظهروا بمظهر المنتصر على المعارضين أو المتحفّظين! وضمن نشوة النصر أُعطيتْ للعائد مساحة من الاهتمام الإعلامي تفوق ما ناله باقي المدعوين، وكأن في الاهتمام المفرط شيءٌ من الشماتة. وإذا لم تكن الشماتة، فلا شيء يبرر هذه المبالغة سوى الإحساس الضمني بالعار، والذي تتم التغطية عليه بالبهرجة الإعلامية الزائدة. أو جرت التغطية عليه تحت زعم الموضوعية والحيادية، فالاجتماع الذي استضاف قاتل شعبه “والذي أتى على نحو مباشر وغير مباشر بقوى الاحتلال” استضاف في المقابل رئيساً منتخباً بشكل ديموقراطي لشعب يدافع عن أرضه ضد الاحتلال.
وبما أن الفُرجة الرئيسية “والوحيدة” التي كان سيقدّمها الاجتماع للإعلام العالمي هي وجود بشار فيه، فمن المأمول أن تشغل استضافة زيلينسكي الإعلام الغربي عن التوقف طوال الوقت عند استضافة الأول، حيث لم يكن مستبعداً أن تتضافر في التحاليل الغربية نظرة الاشمئزاز من التطبيع مع قاتل ونظرة الذين يرون في المنطقة حكاماً وشعوباً ميؤوساً منهما ومن تحولهما إلى ديموقراطيات تعيش في هذا العصر. ومن دون أن يتعمد ذلك، قدّم زيلينسكي للمهتمين مادة إضافية بتركزه على الاحتلال الروسي لشبه جزيرة القرم، فتجاوز الحدّ “المقبول” غربياً من الاحتلال الروسي.
في خلفية العرض الذي رأيناه، كأنما هناك ضمناً من يقول لنا بانتصار: نحن قادرون على الإتيان ببشار، وقادرون على الإتيان بزيلينسكي. وهكذا، على الأقل، نقدّم فُرجة متميزة عن الاجتماعات الرتيبة عادةً لهؤلاء القادة. هكذا يثبت تنظيم العرض القدرةَ على استقطاب الاهتمام، وعلى صناعة الحدث، بصرف النظر عن محتواه، بل لعل التحدي الأكبر يكون بصناعة الحدث من مادة غير مقبولة على نطاق واسع، وبالتطبيع مع مصالحة القاتل بوصفها حدثاً غير اعتيادي، لا أكثر ولا أقل.
إزاء مفهوم الفرجة هذا، ليست المسألة فقط خلوّه من الالتزام تجاه الضحايا، بل أيضاً تجريفه من المحتوى السياسي، فالرهان هنا على صناعة حدث يخطف الأضواء، ولا بأس فيما إذا صار طيّ النسيان خلال أيام قليلة. هكذا سيعاود مندوبو بشار حضور اجتماعات الجامعة العربية، وسيتثاءبون من الملل أسوة بنظرائهم، وكما فعل الجميع خلال عقود سابقة، ولن يكون هناك اهتمام إعلامي، ولن يكون هناك تساؤل عمّا آلت إليه وعود الحضن العربي العتيد، على الأقل لجهة تخفيض كميات الكبتاغون العابرة لحدود ذلك الحضن.
وفق المفهوم نفسه، ينضم وجود الأسد وزيلينسكي في جدة إلى حصيلة أحداث جعلت من الدولة المضيفة مركزاً يستقطب الأنظار، وإن لم تكن من الطينة ذاتها. فقبل شهور، ولا نسوق هذا إطلاقاً من باب السخرية، غنّت هيفا وهبي في موسم الرياض، وأثارت ضجة لدى مجموع الجمهور العربي تفوق ضجة حضور الأسد، لما من حضور سابق لصورتها وصوة السعودية النمطيتين. وبعدما هدأت ضجة هيفا بمدة قصيرة، أثار ضجة كبرى في العلم خبرُ توقيع النجم كريستيانو رونالدو عقد لعب مع نادي النصر السعودي، وانشغل الإعلام لأسابيع بالخبر، ثم بتأكيده وبوصول رونالدو مع أسرته إلى السعودية وتدريباته الأولى.. إلخ.
أيضاً ما إن أصبح وجود رونالدو في المملكة اعتيادياً حتى راجت الإشاعات عن صفقة كبرى، ينتقل بموجبها خصمه اللدود ليونيل ميسي من نادي باريس سان جرمان إلى نادي الهلال السعودي. على ذلك، يبدو السؤال عمّا إذا كان التطبيع مع الأسد مجزياً من طينة السؤال “بالأرقام” عمّا إذا كانت صفقة رونالدو رابحة؛ هذا النوع من الأسئلة يبحث عن الجدوى في غير مكانها، وفي غير وقتها القصير المحدود، والذي “للمفارقة” أشار إلى ضيقه بشار الأسد.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت