تغري لعبة المقارنة بالقول أن أحوال سوريا اليوم كأحوالها قبل قرن، أي ما يُعرف بزمن سفربرلك الذي شهد أشدّ مجاعة عرفتها البلاد. لكن هذه المقارنة باتت مجحفة جداً بحق بؤساء اليوم، فالأسلاف عاشوا أهوال تلك الحقبة في سياق حيواتهم البسيطة عموماً، وقليلة المعرفة بأحوال العالم. السوري البائس حالياً يعرف جيداً كيف يمضي العالم بلا اكتراث بمعاناته، وعندما تحضر الكهرباء يرى بعينه على الشاشات مظاهر الحياة “الطبيعية”، يرى كل ما ليس له حقّ فيه، لا لذنب ارتكبه بل فقط لوجوده في بلده.
ومن مظاهر المقارنة التي قد تحضر مع سفربرلك اقتياد الشبان السوريين قبل قرن، كمحاربين للدفاع عن السلطنة العثمانية، وهناك حكايا عن عائلات فقدت أبناءها من دون معرفة شيء عن مصيرهم وعن أي بلد لقوا حتفهم فيه. اليوم صارت العائلات عموماً أكثر معرفة بأحوال الشبان المحاربين في بلدان أخرى، مثل أوكرانيا وليبيا وأذرييجان، رغم فقدان الأخبار عن بعضهم.
وجه التشابه هذا يستحضر معه أفول السلطنة العثمانية، ومن ثم المقارنة مع رعاة الأسد في طهران وموسكو الذين تعاني بلدانهم من ظروف بالغة السوء، خاصة بالمقارنة مع الطموحات الإمبراطورية لحكام البلدين. على ذلك، يظهر كأن السعال في دمشق هو نتيجة لحمّى الأنفلونزا في طهران وموسكو، ففي ظروف أفضل للبلدين لم يكن حال سلطة الأسد ليبلغ هذه العتبة المتردية. للتأكيد، هذا الربط لا يبرّئ حكم الأسد من المسؤولية الأولى والأساسية عمّا آلت إليه أحوال السوريين، سواء تحت سيطرته أو خارجها.
بالتشبيه مع السلطنة العثمانية، لا نذهب إلى التبشير بانهيار تام وشيك للسلطة في طهران أو موسكو، لكن ما قصدناه بالحمّى المشتدة في بلدين يحتفظ بدلالته على أحوالهما الاقتصادية على الأقل. نحن إزاء قوتين “إقليمية ودولية” بدا لعقدين على الأقل أن لهما طموحات إمبراطورية قيد التحقيق، ورأينا في المثال السوري كيف حظي توسعهما بمباركة دولية. إلا أنهما، من دون هذه المباركة تحديداً، تعودان إلى حجمهما الطبيعي كبلدين يعتمدان على النفط والغاز للنهوض بالجانب العسكري الذي يخدم هيمنة السلطة داخلياً وخارجياً.
طوال عشر سنوات تقريباً ضخّت طهران في اقتصاد الأسد حوالى ملياري دولار سنوياً، ولا معلومات عن قيمة الدعم العسكري الروسي قبل التدخل المباشر، مع ترجيح شرائه بالديْن. لقد أنفق الطرفان الإيراني والروسي مبالغ ضخمة حقاً للإبقاء على الأسد، وشهدنا تنافسهما من أجل استردادها مستقبلاً بالسيطرة على مرافق سورية حيوية. من أمثلة السيطرة على القطاعات الحيوية تلك الأخبار الواردة مؤخراً عن تبعية المشغل الخليوي الثالث للحرس الثوري الإيراني، وفي كل الأحوال فإن سيطرة طهران وموسكو على مختلف القطاعات الرابحة تمنع دخول منافسين آخرين، وتزيد من قوة الارتباط بين الحمّى في كل منهما والسعال في دمشق.
قد تزيد موسكو من حدّة الجدل في الأيام القليلة المقبلة، على خلفية رفضها التمديد لدخول المساعدات الأممية إلى الشمال السوري من معبر “باب الهوى”، وستمارس مزيداً من الابتزاز لإدخال المساعدات وتوزيعها انطلاقاً من مناطق سيطرة الأسد، أو لتقايض إدخالها بإدخال مساعدات أكبر إلى مناطقه. في كل الأحوال، تريد موسكو من الأمم المتحدة “والدول المانحة” تحمّل نفقات بقاء الأسد بإنعاشه، والموقف الروسي ليس سياسياً فقط، ولا مرتبطاً بتردي العلاقة مع واشنطن بسبب أوكرانيا؛ إنه في المقام الأول ناجم عن تدهور الاقتصادين الروسي والإيراني وانعكاسه على اقتصاد الأسد.
لا يُستبعد نجاح الابتزاز الروسي، والتهويل بحجمه إعلامياً وسياسياً، أما تأثيره الفعلي فسيكون على الأغلب ضئيلاً جداً، فوق أنه لن يكون مستداماً. ما تطالب به موسكو علناً، وتشاطرها به طهران ضمناً، أن يتبرع العالم بإنقاذ الأسد المنهار اقتصادياً، لكي يبقى معافى تحت سيطرتهما. بل أكثر من ذلك، يطمح الوصيّان إلى مشاريع إنقاذ وإنعاش مبكّر ترجع عوائدها إليهما، بحكم سيطرتهما على مفاصل الاقتصاد السوري.
ما يهمنا في التأكيد على هذا الارتباط أن الأزمة المعيشية الخانقة تحت حكم الأسد سيبقى التخفيف منها مرهوناً بتحسن أحوال الاقتصادين الروسي والإيراني، أما الشروع في حلّ مستدام لها فلن يصبح ممكناً قبل الشروع في حل سوري مستدام. لذا تفتقر إلى الواقعية الشكاوى التي راحت تظهر في مناطق سيطرة الأسد، وترى في الفساد الحكومي سبباً لتردي الأحوال، سواء طاولت الاتهامات الأسد شخصياً أو توقفت عند المستوى الوزاري.
هذه الوضعية هي استكمال لإنهاء القضية السورية، بوصفها قضية مستقلة تتطلب حلاً يراعي أسبابها وجذورها العميقة. فالقضية السورية تم تحويلها، بأدوات سورية أو من دونها، إلى محرد ملفّ من الملفات العالقة بين القوى الخارجية المتنافسة في سوريا. نحن، بسبب ذلك، أمام إنذار شديد القسوة، مفاده استمرار التدهور الحالي، أو تفاقمه، وسط عدم اكتراث القوى المتصارعة التي لا تضع في قائمة أولوياتها البؤس السوري المتفشّي. لدينا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية العديد من “الملفات” التي بقيت طويلاً بلا حل، واعتاد العالم بيسر شديد على مناظر البؤس القادمة منها، مما لا يجعلنا نتفاءل بحل قريب لمأساة السوريين.
بالعودة إلى حقبة سفربرلك، من الملاحظ أن السلطنة العثمانية كانت في طور النهاية عندما تسببت بتلك المجاعة التاريخية، وهذا ليس المثال الوحيد على اللجوء إلى الأسوأ في طور النهاية. الاستثناء السوري الحالي هو في بقاء الأسد الذي تصرف منذ عام 2011 على أنه في طور النهاية، وهو بالمعنى العميق لم يغادر هذا الطور رغم إنقاذه من السقوط.
أفضل السيناريوهات الواقعية حالياً أن تقدّم الأمم المتحدة مزيداً من المساعدات الإسعافية، على شكل سلال غذائية ودوائية، وهو كما نعلم خيار بلا آثار اقتصادية مديدة. وربما يكون الخيار الوحيد، لأن عودة المساعدات الإيرانية والروسية مستبعدة، أقلّه بالزخم القديم الفعّال نسبياً. مع بقاء خريطة الهيمنة الحالية سياسياً واقتصادياً، لا تصعب على أحد المفاضلة بين احتمالين؛ تلبية مطالب الأسد وحليفيه بإنعاش اقتصاده وإعادة الإعمار بأموال غربية وخليجية، أو عدم الاكتراث جديّاً ببؤس السوريين، واستنتاج أيهما أقرب منالاً.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت