أكثر ما يستحق الوقوف عنده، في دراما سقوط طارق العيسمي، رجل فنزويلا القوي –سابقاً-، هو ما قاله المدعي العام الفنزويلي، طارق وليم صعب، أن “كل شيء في الوقت المناسب، وحان الوقت المناسب”.
كثيرة هي أوجه الشبه بين دراما سقوط طارق العيسمي، وبين سيناريوهات درامية مشابهة، كرّرها النظام السوري، على مدار العقود الخمسة الفائتة. وقد يحلو للكثيرين تذكّر دراما “انتحار”، أطول رئيس وزراء في تاريخ سوريا المعاصر، بقاءً في منصبه، -محمود الزعبي-، بعد اتهامه بالفساد، خلال الأشهر الأخيرة من عملية تجهيز بشار الأسد، للجلوس على رأس هرم النظام. واليوم، يحتاج الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، إلى رافعة نفسية تعزّز بروباغندا مكافحة الفساد التي يستند إليها لإقناع الشارع اللامبالي سياسياً –بعد تشتت المعارضة- بضرورة انتخابه لولاية جديدة في تموز/يوليو القادم. ذلك أن بروباغندا مكافحة الإمبريالية، والمؤامرة الغربية على فنزويلا “التقدمية”، التي اعتاد مادورو على ترديدها برفقة نائبه السابق – العيسمي-، ما عادت مقنعة لشريحة كبرى من الفنزويليين.
أوجه شبه أخرى، تجمع بين النظام السوري ونظيره الفنزويلي، وحليفهما الإيراني وذراعه الممثلة بحزب الله. فالمتاجرون بالقضايا الكبرى، -فلسطين-، -مكافحة الإمبريالية-، يتاجرون أيضاً بالمخدرات. في فنزويلا، كان طارق العيسمي رأس جبل جليد هذه التجارة، ورأس حربتها أيضاً. وعندما كان وزيراً للداخلية، في عهد الرئيس السابق، هوغو تشافيز، كان يدعم –عبر شقيقه أو بصورة مباشرة- بارون المخدرات الفنزويلي الشهير، وليد مقلد. والذي اعترف على شاشات التلفزيون الكولومبي، بتورط أركان حكومة تشافيز، بهذا النشاط، منذ العام 2010، وبتعاونٍ مع عناصر من حزب الله. لكن ذلك لم يضع حداً لمسيرة صعود العيسمي، بل على العكس، فالرجل تحوّل في عهد خليفة تشافيز –مادورو- إلى أحد أركان الدائرة الضيقة للرئيس.
فشبهات الفساد عادةً ما تكون رافعةً للشخصيات إلى مواقع قيادية أعلى في أنظمة من قبيل النظام السوري، ونظيره الفنزويلي. وهكذا، تنقل العيسمي من وزير للداخلية إلى حاكمٍ لولاية أراغوا المهمة قرب العاصمة كراكاس، حيث يوجد سجنٍ شهير في البلاد، شهد نشاطاً مكثّفاً لعصابة “إل ترين دي أراغوا” العابرة للحدود. قبل أن يصبح العيسمي نائباً للرئيس لسنة، ثم وزيراً للصناعة، وأخيراً، وزيراً لأهم ثروة في البلاد، النفط.
ومن أوجه الشبه أيضاً، ذاك الانحدار المعيشي الذي تتسبب به أنظمة كهذه، لشعوبها. فيما يُثري مسؤولوها ويعيشون في ترفٍ علني في كثير من الأحيان. فـ فنزويلا التي انحدرت من أغنى اقتصاد في أمريكا اللاتينية، إلى بلدٍ يعاني من معدلات تضخم تاريخية، ويعيش مواطنوه في أزمة غذاء ودواء قاسية، ويفرّ الملايين من سكانه، عندما كان طارق العيسمي، -يوم كان وزيراً للصناعة-، يشتري العقارات الفاخرة، وتتحول عائلته إلى واحدة من أثرى العائلات في البلاد.
ويمكن فهم جانبٍ من أوجه الشبه تلك، بأن العيسمي، الذي كان يوصف يوماً بأنه أحد أقوى أركان “الحزب الاشتراكي الموحد”، الحاكم في فنزويلا منذ العام 1999، هو سليل عائلة “بعثية”، بامتياز. وبعيداً عن قريبه، شبلي العيسمي، أحد مؤسسي “البعث”، -والمقرّب سابقاً من نظام حكم صدام حسين-، كان والده، ناشطاً بعثياً في فنزويلا. وكما التقت “يسارية البعث” في دمشق مع “يمينية” حكم الملالي في طهران، كذلك فعلت “يسارية” تشافيز وخليفته مادورو. التقاء أدى -كما في حالة دمشق وطهران- إلى علاقة وطيدة مع حزب الله، كان واسطتها، طارق العيسمي، ونُسجت خيوطها الأولى، في دمشق. ففيما كان نظام مادورو يترنح بشدة، عام 2019، ومسؤولون كبار ينشقون عنه، خرج رئيس المخابرات السابق، ليكشف جوانب من صندوق الحكم الأسود. أحد هذه الجوانب، ذلك المتعلّق بدور العيسمي في التأسيس لعلاقة -ستصبح لاحقاً، أكثر تجذراً- مع حزب الله. كان العيسمي يومها وزيراً للداخلية، عام 2009، حينما أوفده تشافيز إلى إيران. لكنه طلب التوقف لبرهة في دمشق، وهناك عقد لقاء مع ممثلٍ عن حزب الله، ليضع حجر الأساس للتعاون مع الحزب، في مجال تجارة المخدرات.
أما أكثر أوجه الشبه عمقاً، بين النظامين السوري والفنزويلي، هو مبدأ “الوقت المناسب” الذي أشار إليه المدعي العام الفنزويلي في معرض تعليقه على سبب تأخّر الإعلان عن توقيف العيسمي، لأكثر من سنة، منذ فضيحة الفساد في إدارة أموال النفط. فمن بين ما كُشف في معرض تسريب الوثائق العائدة للمخابرات الفنزويلية إبان أزمة العام 2019، أن المخابرات الفنزويلية كانت تراقب العيسمي منذ سنوات، وتعد ملفاً لانتهاكاته المرتبطة بعالم الجريمة والفساد. هذه التسريبات كانت قبل عامٍ فقط من تسلّم العيسمي لوزارة النفط. وفي العام التالي، حاولت المعارضة الفنزويلية فتح تحقيقٍ ضد العيسمي، ووزير المالية، سمارك لوبيز. لكن النظام الحاكم عرقل التحقيق، ودافع بشدة عن الرجلين. إذ لم يكن “الوقت مناسباً” بعد، حسب مصالح النظام. يذكّرنا ذلك، بدراما جرت منذ بضعة أشهر، في سوريا. سقوط أمير الحرب، خضر علي طاهر –أبو علي خضر-. فذاك الذي تحدثت المعارضة عن تغوله على كل ما يتعلق بمصادر رزق السوريين، لسنوات، في ظل تجاهلٍ تام من جانب النظام، سقط في أسابيع، حينما حان “الوقت المناسب”.
وهكذا، لا أحد من المتنفذين في نظامَي دمشق وكراكاس، محصّنٌ. فالأفعال “القذرة” التي تشكّل رافعة للترقي داخل هذين النظامين، هي ذاتها، التي تُعدُّ الملفات عنها، على مدى سنوات، بانتظار “الوقت المناسب” لاستثمارها.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت