أحد الجوانب المهمة التي كشف عنها كتاب جون بولتون، مستشار ترامب السابق للأمن القومي، هو غياب القضية السورية عن اهتمامات الطبقة الأمريكية الحاكمة. ذلك لا يتعلق بترامب شخصياً، فهو كما نذكر أعلن مرتين عن نيته سحب قواته نهائياً من سوريا، والعودة عن قراره مرتين أتت بضغط من أركان الإدارة لأسباب لا تتعلق بالسوريين. الاشتباك مع طهران هو الذي أبقى القوات الأمريكية، وفي ما عدا ذلك ربما ينظر طاقم ترامب إلى سوريا بوصفها مجرد “رمال وموت” وفق تعبيره هو، أي بوصفها صفراً كقيمة استراتيجية منفصلة.
كان أوباما حريصاً على عدم التورط في سوريا، لولا اضطراره إلى محاربة داعش. في حقبته أيضاً كانت السياسة الأمريكية تمرّ كتفصيل صغير ضمن الاشتباك مع طهران، ونُقل عنه تلهيه بكمبيوتره اللوحي عندما كانت جلسات الأمن القومي تصل إلى مناقشة البند السوري. كان هدف أوباما الرئيسي توقيع اتفاق نووي مع طهران، ولم يكن ليمانع في تقديم أرض “الرمال والموت” كرشوة لتوقيع الاتفاق، ولم يمانع لاحقاً التدخل الروسي لإنقاذ بشار، هو الذي أظهر علناً احتقاره المعارضة السورية واعتبارها غير مؤهلة لتكون بديلاً عنه.
الاستهلال السابق يكشف لنا عن القيمة المستقلة للقضية السورية من وجهة نظر قوة احتلال هو الأقل كلفة ضمن القوى الأخرى، فالوجود الأمريكي يقتصر على بضع مئات من العسكريين وعلى قدر محدود جداً من الإنفاق ربما لم يعد يضاهي المساعدات الإنسانية التي تقدّمها الإدارة للسوريين. وهذا الوجود “فوق محدوديته” مؤثر في تحرك القوى الأخرى وفي مستقبل الصراع في سوريا وعليها، لكن ذلك كله لا وزن له أمريكياً إلا ضمن المصالح المتشابكة مع القوى الأخرى، أي روسيا وإيران وتركيا وإسرائيل.
موسكو تقلل عادة من كلفة تدخلها في سوريا، وتنوه أحياناً بمكاسب من صفقات أسلحة أبرمتها على خلفية تجريبها في اللحم السوري. والواقع أن الكلفة المتدنية المزعومة يتم إبرازها بين الحين والآخر لتضخيم مكاسب محفوفة بالتساؤلات، فالحصول على قواعد عسكرية “جوية وبحرية” في سوريا لن يجعل من روسيا قوة متفوقة بالمقارنة مع التواجد الأمريكي في عموم المنطقة والكفة التقنية الراجحة له، وأبلغ دليل على قيمة المكاسب الاستراتيجية المزعومة موافقة واشنطن عليها عن طيب خاطر وعدم استخدام قدرتها على إزعاج موسكو سورياً.
أول ما يطعن فكرة “النصر الروسي” أن بوتين ذهب إلى أرض متروكة أمريكياً، وسبقه إلى فراغها العديد من القوى والتنظيمات، وهو كان حتى الآن مضطراً إلى السير بتوازن بين القوى الإقليمية الأخرى المتصارعة، تركيا وإيران وإسرائيل، على حساب قدرته على احتكار المسألة السورية. إعادة سوريا إلى ما كانت عليه تفوق قدرة الديبلوماسية والجيش الروسيين، ودونها حروب مع تلك القوى الإقليمية، وصولاً إلى حرب مستحيلة ضد الوجود الأمريكي. أهم ما في الأمر أن الطريق غير ممهدة أمام بوتين ليفرض مشيئته على التركيبة الأسدية، لقد سبقه الإيرانيون بأشواط في هذا المضمار، وطهران لن تتخلى عن نفوذها خاصة وهي تراهن على رحيل ترامب وعودة الديموقراطيين.
طهران من جهتها لا تملك سوى خيار مقاومة إجلائها عن سوريا، فهي دفعت ثمناً باهظاً من الأموال ومن ميليشياتها ليتباهى قادتها بالسيطرة على أربع عواصم عربية. ما دفعته طهران انعكس إفقاراً للإيرانيين الذين كان يتعين عليهم رؤية الحلم التوسعي هدفاً يستحق التضحية، والانهيار الكلي لمشروع التوسع سيكون له ارتدادات داخلية عميقة على حكم الملالي. لا تستطيع طهران المضي إلى الأمام في سوريا، ولا إلى الخلف، ولا تساعدها الظروف الحالية على استرداد جزء من ديونها على الأسد، مثلما لا تساعدها على إنقاذه من التدهور الاقتصادي على النحو الذي فعلته من قبل. كل ما في وسعها فعله التسلل من شقوق الغارات الإسرائيلية على مواقعها وإمداداتها، من دون القدرة على الرد أو على صوغ سياسة ذات أفق باستثناء ما تسميه “الصبر الاستراتيجي”، إذا لم ينفذ الصبر من البوابة اللبنانية.
أنقرة التي تملك حضوراً في جزء معتبر من الشمال السوري ليست في حال أفضل، فهي قد دفعت ثمن وجودها بصفقات ومقايضات تحسر تأثيرها في الملف السوري إلى عتبة هواجسها إزاء المسألة الكردية. خسرت أنقرة من جنودها، ودفعت أثماناً اقتصادية، من دون يقين بجدوى سياساتها ضمن ازدحام القوى الموجودة في سوريا، فهي رضخت أكثر من مرة لضغوط موسكو التي نقضت تفاهمات سابقة، ومضطرة في الجانب المقابل إلى القبول بتحالف واشنطن مع الفرع السوري لحزب العمال. الوضع الداخلي، على الصعيدين السياسي والاقتصادي، لم يعد مريحاً لحزب العدالة وسياسات أردوغان في سوريا داخلة في صلب جدل القوى السياسية، وسيزداد التصويب عليها مع اقتراب الموسم الانتخابي. لقد انتهت سياسة “صفر مشاكل” التي منحت تركيا مكانة إقليمية ودولية غير مسبوقة، واليوم هناك قوى إقليمية “خليجية تحديداً” تسعى إلى هزيمة أنقرة عسكرياً، أو تهميشها في أية تسوية لاحقة من خلال النفوذ الذي ستكتسبه تلك القوى بتمويل إعادة الإعمار. أيضاً، تركيا عالقة بحيث يصعب عليها الانسحاب، ولن يكون جني المكاسب “أو الحفاظ على الوضع الحالي” مضموناً.
باستثناء واشنطن، ليس لدى القوى الأخرى سياسات واضحة للخلاص من الورطة السورية، والاستثناء الأمريكي يقتصر على قانون قيصر إذا جاز اعتباره أول خريطة طريق مُتفق عليها داخلياً، مع التأكيد على تحاشي إدارة ترامب التورط في الموضوع السوري خلال الزمن القصير الذي يفصلها عن الانتخابات الرئاسية، إلا إذا كانت الأطراف الأخرى جاهزة لمنح ترامب إنجازاً يستثمره فيها. ثمة تحركات روسية مؤخراً، منها إيفاد مبعوث بوتين ليلتقي بالرئيس السابق لائتلاف المعارضة أحمد معاذ الخطيب، سقف التحركات التقاط إشارة المبعوث الأمريكي إلى رغبة بلاده تغيير سلوك الأسد لا تغييره، والفشل أقرب إليها عطفاً على سوابق الديبلوماسية الروسية غير الجادة. في ما عدا ذلك، الاحتمالات مفتوحة على خسارات إضافية لمختلف اللاعبين، سواء بسبب تبعات قانون قيصر أو جراء نزاعات المأزومين.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت