ليس على غير عادة المسؤولين الروس في تحميل المعارضة السورية اللوم عن تعطيل مسار الحل السياسي في سوريا، أدلى السفير ومبعوث الرئيس الروسي إلى دمشق لافرنتييف قبل أيام بتصريحٍ خاصٍ بأعمال اللجنة الدستورية، لكنّه هذه المرّة لم يكتف بالمعتاد، بل أضاف عبارات استدعت تفاعلاً سورياً كبيراً. كان أهم ما أدلى به السيد لافرنتييف هو وجوب ألا تؤدي عملية كتابة الدستور السوري إلى تغيير نظام الحكم، كما ألحقها بالعبارة القديمة الجديدة التي يطلب فيها من السوريين التحلي بالواقعية السياسية، وعدم الحديث بأي شيء يخصّ إزاحة بشار الأسد عن سدّة الحكم.
الحقيقة أنّه لا شيء مفاجئ في الموقف الروسي، فقد تركّز خطاب الروس المعتاد في وجوب أن يكون الحل سورياً وبين السوريين، وفي عدم جواز وضع شروطٍ مُسبقة أمام المتحاورين، وفي أنّ الدستور يكتبه السوريون وحدهم، وأنّه لا بدّ من الحفاظ على وحدة أراضي سوريا وسيادتها، وأنّ تدخّلها كان بطلب من الحكومة الشرعية للحفاظ على مؤسسات الدولة ومنعها من الانهيار، وهو ما دأبت على تكراره بلا ملل منذ اللحظة الأولى للثورة السورية. لكن الجديد هو خروج الروس عن هذا التكرار وقلب ثوابتهم إلى عكسها، فمن خلال تحديد نتائج العمل السياسي مسبقاً، ومن خلال وضع سقفٍ أعلى لما يمكن أن تصل إليه أعمال اللجنة الدستورية، يكونون قد أزالوا آخر أوراق التوت عن عورتهم.
لا تنفك السياسة الروسية من تحقيق أهدافها الاستراتيجية خطوة خطوة، فكما استطاعت تفكيك الفصائل المسلّحة المحسوبة على الثورة واحدة تلو الأخرى، من خلال مسارات خفض التصعيد التي كانت محور مباحثات أستانا، وكما استطاعت تثبيت أقدام النظام وحليفه الإيراني عسكرياً بعد قضم الجغرافيا التي خرجت عن سيطرته سابقاً وإعادتها إليه، ها هي الآن تحقق تقدماً موازياً بقضم المسار السياسي، وبإفراغ القرارات الدولية من مضمونها شيئاً فشيئاً، ثم بتعطيل آليات المسارات البديلة التي أوجدتها هي ذاتها في هذا السياق.
بالمقابل حافظ الروس على صندوق الرسائل مفتوحاً للإرسال والاستقبال، فالعقود والاتفاقيات التي أجبرت حكومةَ النظام على توقيعها، ليست أكثر من احتكار قنوات تصريف أموال إعادة الإعمار المستقبلية، وهي تستكمل ذلك بشكل ذكي من خلال اختراق المجموعات السورية المعارضة عبر أشخاص سوريين يتبنون الرؤية الروسية بشكل كامل لطريق الحل النهائي للأزمة. في هذا الإطار يجب قراءة مجموعة الزيارات التي تنظمها لأشخاص محسوبين على المجتمع المدني عُرفت أسماء بعضهم، أو التي تخطط لها فيما يخصّ كيانات وأجساماً سياسية معارضة ومجموعات من رجال الأعمال السوريين. كما أنّ فتح السماء السورية أمام سلاح الجو الإسرائيلي هو رسالة للأسد والإيرانيين بأنها المتحكم الأول والأخير بكل ما يمكنه أن يبقي النظام أو يؤدي إلى زواله. كذلك كانت ضغوطاتها على مسؤولي مجلس سوريا الديمقراطي للوصول إلى تفاهمات تعيدهم رسمياً إلى حضن النظام، وحثّها أعضاء المعارضة الرسمية على الحج إلى موسكو، وانتقادها زياراتهم إلى واشنطن، رغم أنّ مركز التأثير ليس هناك، بل عندها.
ينظر الروس إلى سوريا من منظار مصالحهم القومية العليا، ويضعونها في موقع جيد ضمن مراتب الأولويات، وهي ليست بالبعيدة عن مرمى سهام تطلعاتهم الدولية أبداً، ولا شكّ أنها بوابة جيدة للدخول إلى العالم العربي من خلال موثوقية كبيرة تقدّمها للأنظمة، على العكس من الأميركيين الذين لا يتورّعون عن خذلان حلفائهم عند أول تعارض بسيط في المصالح. وتلعب سوريا دوراً مهمّاً في بازارات المقايضة الروسية مع الأميركيين والأوروبيين، سواء من خلال بوابة حماية أمن إسرائيل، أو من بوابة التمدد الإيراني في المنطقة، كما أنها ورقة مساومة جيدة مع الأتراك.
يأخذ الأفق الجيوسياسي للروس اتساعه من ضعف القوى المحيطة، فالدول الصغرى والأمم القريبة من روسيا ليست بوارد صناعة هويتها إلا وطنياً، بينما يحاول الروس صناعة الدولة الروسية بهوية وطنية روسية، وبالوقت نفسه يسعون لبناء الدولة الإمبراطورية. لكنّ شكل الدولتين – بنظر علوم السياسة والاجتماع الراهنين – متناقضان، لأنّ الامبراطوريات تتشكل – أو بالأصح – تشكلت عبر التاريخ من مجموعة شعوب أو مجموعة أمم تربطها فلسفة الدين، مثل الإمبراطورية البيزنطية بعد قسطنطين، ومثل الإمبراطورية الإسلامية بدءاً من العباسيين، أو فلسفة القانون مثل الإمبراطورية الرومانية، بينما تقوم الدولة على أساس فلسفة القومية أو الوطنية. هنا، في الدولة الوطنية، يمكن بناء هوية من مجموعة مشتركات تقوم على الدين والثقافة واللغة والتاريخ والأرض والتنظيم الاجتماعي، بينما لا يمكن إيجاد هذه المشتركات في الإمبراطوريات، أو لم توجد مثل هذه الإمبراطوريات سابقاً.
مشكلة الروس أنهم مازالوا عالقين في الوسط بين الفهمين السابقين، فلا هم بقادرين على إنجاز الحلم الإمبراطوري لأنّ قوانين العصر الراهن لا تسمح بذلك، ولا هم بقادرين على الاكتفاء بالحدود الوطنية الروسية. يقدّر الروس أنفسهم بشكل كبير وينظرون إلى قوميتهم باعتداد أكبر، والهويّة الروسية في صراعِ تشكّلٍ حاد منذ راسبوتين وحتى بوتين، وقد أسهم انكسار شوكة الفرنسيين والإنكليز على يد هتلر، وانكسار شوكة الألمان بعد اندحار النازية، في فتح الباب أمام الروس بالذهاب بعيداً في حلمهم هذا. لكن، ولسوء الحظّ أو لحسنه، أدرك الإنكليز والألمان والفرنسيون حجمهم، كما أدركوا انحسار زمن بناء الإمبراطوريات، بينما لم يدرك الروس بعد حجم روسيا وقدراتها، ولا انقضاء فكرة الإمبراطوريات العابرة للقوميات، لذلك يذهبون إلى العنف العاري كما حصل في الشيشان وفي القرم وفي سوريا، أو العنف المبطن كما يحصل في أوكرانيا الآن، وكما سيحصل مع بعض دول البلطيق بعد أوكرانيا في المستقبل.
تكمن مشكلة السوريات والسوريين في المقابل، بأنّهم فقدوا كل اعتبار لوطنيتهم، وكلّ اعتقاد بهويّتهم، فلا جامع يلمّ شمل عقدهم، ولا ناظم يوازن بوصلة وجودهم، لذلك تراهم مشتتين بين محاور إقليمية ودولية، يبرر كل فريق منهم انحيازه وتبعيته بمبررات لا تصمد أمام النقد الحقيقي. وإلى أن تتشكّل تلك النخبة السياسية من السوريات والسوريين، ممن يمكن أن يُطلق عليهم وصف رجالات الدولة، القادرين والقادرات على إعادة الاعتبار للوطنية السورية، سنبقى في تيهنا وضياعنا هذا.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت