فشلت أنقرة في إقناع إدارة جو بايدن بفوائد “دبلوماسية تقاسم المصالح” التي تبنتها في العام 2021 وبدأت تطبيقها لتحسين علاقتها مع العديد من الدول العربية والإقليمية. الرئيس الأميركي الجديد ليس موضع ثقة بالنسبة للعديد من القيادات السياسية التركية بسبب مواقفه المعلنة وغير المعلنة حول النظرة إلى حكومة العدالة والتنمية وسياساتها الإقليمية التي تتعارض مع مصالح أميركا وحساباتها في المنطقة. ملفات الخلاف والتباعد بين البلدين كثيرة ومتشعبة. نوقشت أكثر من مرة في السر والعلن بين قيادات أمنية وعسكرية وسياسية دون نتيجة ملموسة. لقاء القمة بين أردوغان وبايدن على هامش اجتماع منظومة الدول العشرين خرج بوعود وقرارات تتحدث عن مرحلة ومسار جديد في العلاقات لم يطبق الكثير منها.
الإدارة الأميركية تقول هنا إنها ليست متحمسة أو مستعجلة في تحسين علاقاتها مع الجانب التركي لذلك ردت تركيا التحية بإعلانها أن الحوار التركي الروسي يتقدم ويزدهر بفضل اللقاءات الثنائية المتكررة والمباشرة بين الرئيسين أردوغان وبوتين. كان الرهان مؤخرا على ملفات أفغانستان وأوكرانيا وإثيوبيا لتلعب دور التهدئة والانفتاح أميركياً وتركياً بعدما عقدت ملفات التقارب التركي الروسي وخطوة بايدن الأرمنية في نيسان المنصرم والدعم العسكري الأميركي المتزايد لليونان، وتمسك واشنطن بحليفها الكردي في شرق الفرات، لكن حسابات الحقل والبيدر اختلطت مرة أخرى.
قبل أيام ومع اقتراب نهاية العام قصد مستشار الرئيس التركي وأحد أقرب أعوانه وربما كاتم أسراره إبراهيم قالن الولايات المتحدة الأميركية في زيارة بهدف المشاركة في أعمال المؤتمر السنوي العشرين للجمعية الإسلامية الأميركية – والدائرة الإسلامية في أميركا الشمالية التي عقدت في مدينة شيكاغو. أعلن قالن على هامش الزيارة أنّ أنقرة بعثت برسالة إلى واشنطن بشأن إنشاء وتشغيل آلية تتعلق بمعالجة القضايا الخلافية في العلاقات بين البلدين، وبشأن المسائل التي اتفق عليها الرئيس رجب طيب أردوغان ونظيره الأميركي جو بايدن. كما أشار إلى أنَّ العلاقات التركية الأميركية متجذرة ولها تاريخ طويل، وأنَّ البلدين حليفان في حلف شمال الأطلسي، إلا أن تلك العلاقات تخرج من حين لآخر عن روح التحالف بسبب تجاهل واشنطن للمصالح الوطنية التركية.
هدأت اللغة التركية حيال واشنطن لفترة زمنية قصيرة بعد لقاء القمة بين الرئيسين لكن أنقرة لم تتراجع عن موقف أن “العلاقات التركية الأميركية ليست على ما يرام وأن مسار الأمور اليوم لا يبشر بالخير وبايدن يواصل إرسال السلاح إلى التنظيمات الإرهابية في شرق الفرات كما كان يفعل سلفه ترامب”. هل ناقش قالن مع المسؤولين الأميركيين مشروع خطة جديدة يجري الإعداد لها حول الملف السوري كما يردد البعض اليوم؟
يتمسك البعض في تركيا بفكرة أن أميركا ملزمة بالتعاون والتنسيق مع أنقرة إذا ما كانت تريد حماية مصالحها في المنطقة، لكن عدد الطعنات الأميركية في الأعوام الثلاث الأخيرة وفي سوريا وحدها أكثر من أن يعد ويحصى: واصلت واشنطن تزويد حليفها الكردي في شرق الفرات بالسلاح والعتاد والدعم السياسي رغم كل الاعتراضات والانتقادات التركية والوعود بسياسة سورية جديدة. لم تأخذ أميركا بمطالب أنقرة ورفضها لسياسة محاربة الإرهاب بواسطة مجموعات إرهابية أخرى. وتجاهلت كذلك حاجة تركيا إلى المنطقة الآمنة في شمال سوريا رغم كل الوعود المقدمة بدعم تركيا في الخروج من أزمة اللجوء على حدودها. ثم تركها البيت الأبيض وحيدة في مواجهة التصعيد الروسي الإيراني في سوريا أكثر من مرة لكنه لم يتردد في التصعيد عندما جلست تحاور موسكو وطهران أمام طاولة أستانا.
تسير العلاقات التركية الأميركية وسط حقل من الحفر الكثيرة والعميقة ولا مؤشرَ حقيقياً على وجود رغبة بطمرها أو الالتفاف عليها في العام الجديد. واشنطن متمسكة بورقة أن انسحابها من شرق الفرات لا يعني فقط انتهاء حكم الإدارة الذاتية وسقوط حلم الكيان الكردي المستقل الذي وعدت قسد به تحت ذريعة محاربة مجموعات داعش. بل يفتح الطريق على وسعها أمام موسكو وطهران للتوغل أكثر في سوريا والمنطقة. وكثر هم في أنقرة من يرددون اليوم أن واشنطن التي استفادت من دروس كابول ستطبق ما تعلمته في سوريا وهي ستبقي قواتها ونفوذها العسكري والسياسي لموازنة النفوذ الروسي والتركي والإيراني والبقاء أمام طاولة الملف السوري حتى ولو تفاهمت مع الكرملين على تسوية ثنائية مشتركة هناك. وأن خيارات أنقرة لن تتغير في شمال سوريا والعملية العسكرية ضد قسد بين الاحتمالات القائمة دائماً فهي لا تثق سوى بمن يساعدها على الوصول إلى ما تريده في سياستها السورية.
يحلو للبعض في أنقرة التمسك بطرح أن واشنطن ستنصح دائما شريكها قسد بإنقاذ نفسه عبر القطيعة السريعة مع مجموعات حزب العمال وعدم استفزاز تركيا أو إغضابها أكثر من ذلك. لكن الحديث بين الحين والآخر عن محادثات تركية مع النظام في دمشق بتشجيع روسي وإيراني مسألة تقلق واشنطن أيضاً بقدر ما تقلق أنصار مشروع الحكم الذاتي الكردي لأنها ستتحول إلى تفاهمات حول الإطاحة بهذا المشروع وما شيدته قسد في الأعوام الأخيرة.
كيف ستتصرف أميركا هنا إذن؟ هل ستعطي أنقرة ما تريده مقابل تحول حقيقي في مواقفها وسياستها الإقليمية أم ستعلن أنها ستواصل ما بدأت به في سوريا لحماية التوازنات الحساسة القائمة هناك وضرورة الأخذ بعين الاعتبار بما يقوله ويريده حلفاؤها المحليون والإقليميون؟ الإجابة هي عند بوتين وما سيقوله لنظيره بايدن من خلال الحوار الروسي الأميركي الجديد حول سوريا والذي قد تظهر نتائجه إلى العلن في الأشهر القادمة.
حروب التسريبات الإعلامية حول خطط ومشاريع حلول جديدة للملف السوري تتطاير من كل صوب.
نقلت وسائل إعلام تركية مقربة من حزب العدالة والتنمية الحاكم معلومات تتحدث عن مفاوضات سرية تجري بين أنقرة والنظام في دمشق. ونقلت وسائل إعلام روسية عن مصادرها في دمشق حصول تقدم في مفاوضات تركية تجري مع النظام السوري بهدف تعديل اتفاقية أضنه الموقعة بين الطرفين عام 1998. هل هو مسار جديد في الملف السوري مرتبط بالسياسة الأميركية الجديدة التي شجعت مظلوم عبدي قائد ما يسمى قوات سوريا الديمقراطية لتوجيه رسائل أميركية إلى الأطراف المحلية والإقليمية الفاعلة في الملف السوري حول أن الحوار مع النظام انتهى وأن لا تراجع عن شرط الاعتراف بالإدارة الكردية الذاتية وهيمنتها على آبار النفط، وأن تركيا غير قادرة على الخوض في معركة خارج حدودها في ظل وضع اقتصادي متردٍ تعيشه الدولة؟ هل يشعل الكرملين الذي كان يعارض قيام تركيا بالمزيد من العمليات العسكرية في شمال سوريا ويحاول أن يلعب الورقة الكردية في سوريا على حساب تركيا وأميركا، الضوء الأخضر أمام تركيا لتنفيذ عمليتها العسكرية في إطار الرد على الرسائل الأميركية الأخيرة؟
قناعة واشنطن الحالية هي أن التفاهمات الثلاثية الروسية التركية الإيرانية تتقدم في سوريا ولا بدَّ من إيقافها وأن تركيا اتفقت مع شريكي الأستانا على خارطة تقاسم النفوذ في المنطقة التي ستنسحب منها القوات الأميركية وسيتم إنزال الضربة القاضية بحليفها الكردي في سوريا. لذلك هي تحاول طمأنة شريكها المحلي أن أخطاء ترامب لا تلزم بايدن.
سنحصل في العام الجديد حتما على إجابات لتساؤلات تركية أميركية حول شكل ومسار العلاقات، حيث يشكل الملف السوري حلقة أساسية فيها. هناك من يراهن في أنقرة على أن واشنطن ما زالت راغبة في التفاهم والتنسيق مع تركيا لأن مجالات التعاون أكثر بكثير من أسباب الخلاف والتباعد. وهناك من يقول لنا في واشنطن إن “ما نحاول فعله مع تركيا هو زيادة المجالات التي يمكننا التوافق والتلاقي حولها. وأنه يمكنك الاستمرار في أن تكون صديقاً حتى لو كانت لديك خلافات”. وأن بايدن وأردوغان يعرفان بعضهما جيدا وسيعملان على حماية خيط العلاقات. لكن أردوغان ما زال على موقفه حيال التخبط الحاصل في السياسة الأميركية الإقليمية وبايدن لم يتردد في لعب أوراق كثيرة تغضب تركيا وتدفعها للتصعيد خلال الفترة الزمنية القصيرة التي وصل إلى البيت الأبيض فيها، في ملفات شرق المتوسط واليونان والموضوع الأرمني دون أن يقدم أي مؤشر حقيقي باتجاه التراجع عن هذه المواقف والسياسات. دون التوقف مطولا عند تصريحات بايدن وهو يقود حملاته الانتخابية حول ضرورات التغيير السياسي في تركيا.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت