كان النظام في سورية وحلفاؤه يعتقدون أنّ المراوحة العسكرية في المكان، وتثبيت الجبهات واستقرارها، يمكن أن يُحدثا ظروفاً ملائمة لبدء عمليات إعادة الإعمار، بعد أن يتحقق مقدار أمنٍ يجعل رأس المال يطمئن لتوظيف ما قد يقدّم عوائد مغريةٍ لسوق “ما بعد الحرب”. لكنّ تسويق مشروع إعادة الإعمار أصيب بنكسات عدة، وعلى فترات متباعدة. وقد كانت الخطة معدّة للبدء بإعادة العلاقات مع بعض دول الجوار العربية، والشروع كذلك بتلميع النظام بالتدريج من خلال بروباغندا الانتخابات، وحشد الجماهير، لإعطاء فكرة عن توفر الأمن وانعدام الخوف. ثم يبدأ الضخ المالي وتشغيل ورشات العمل لتحقيق الكسب المادي، خصوصاً أنّ الأسواق في الداخل بحاجةٍ إلى سلع وخدمات وإلى كلّ مستلزمات الحياة. لكنّ المشروع تعرقل بشكل رئيسي، بسبب معارضة الولايات المتحدة الصريحة والمعلنة التي تؤكّدها بإصدار قوانين المعاقبة، الواحد تلو الآخر، وفرض تطبيقها بقوة، وأظهرت أوروبا هي الأخرى السياسة نفسها، وإنْ بإصرار أقل، فتأجلت كلّ مشاريع إعادة الإعمار الممولة من الخارج إلى إشعارٍ لا أحد يعرف متى سيأتي، ومن المرجح أنّه سيتأخر كثيراً.
إزاء ذلك، حاول النظام إطلاق نموذج مصغّر من مشاريع إعادة الإعمار التي تستمد رؤوس أموالها من الداخل، بالاعتماد على ما في حوزة رجال الأعمال السوريين الموالين للنظام، وبعض ما تمتلكه المصارف المحلية، وتخصيص جزءٍ من الموازنة في البلد، لتوظيف ذلك كلّه في مشروعٍ يشكل نموذجاً تشجيعياً، يساهم في كسر الجمود الذي يحيط بملف إعادة الإعمار. بحث النظام في أدراجه العتيقة، فوجد مرسوماً صادراً في عام 2012 تحت رقم 66، يتضمّن إحداث منطقتين عقاريتين لتطوير السكن العشوائي! وكان المرسوم قد صدر، في الأصل، لإخلاء مناطق سكنية عشوائية كان لدى سكانها توجه معارض، تقوم على تخوم دمشق ناحيتي الغرب والجنوب، على جانبي الطريق المتحلق الجنوبي، بالقرب من داريا، نقطة الالتهاب القوي في جسد النظام. وكانت إنذارات بالإخلاء قد صدرت بالفعل، وغادر بعض السكان المنطقة. وفي 2018، عدّل النظام مرسومه التشريعي 66 بالقانون رقم 10، لينشئ ضاحية حديثة بمعايير عالمية، قيل إنّ المنازل فيها ستُمنح لقاطني المنطقة الأصليين، وبأسعار التكلفة.
بحث النظام عن رجال أعمال مغمورين، أسماؤهم غير واردة في سجلات العقوبات الدولية المتنوعة، وحرص على ألاّ يُدخل في المشروع أشخاصاً من الطائفة الضيقة للنظام، بشكلٍ مكشوفٍ على الأقل، ونجحت، إلى حدّ ما، عملية إطلاق المشروع. وجرت بعض أعمال التنظيف والترحيل وأعمال البنية التحتية، كشبكات الصرف والمياه. وبوشر بالفعل في إرساء أساسات بعض الأبراج، بحسب المخطط التنظيمي المعلن. لكنّ بطء العمل، وعدم إنجاز المراكز الخدمية والترفيهية للضاحية يوحي أنّ التمويل يعاني بشدة، ما قد يؤدّي إلى التوقف، أو الاستمرار في العمل إلى ما لا نهاية، من دون أن تكتمل وحدة سكنية واحدة من هذا المشروع. والأهم من ذلك بقاء سكان المنطقة الأصليين في ما يشبه العراء، وقد تم إخلاؤهم على أملٍ تبيّن أنّه مجرّد وهم.
يبدو هذا المشروع نموذجاً لما يدور في خلد النظام الذي يهرول خلف أحلامه، متناسياً السنوات العشر المدمِّرة التي أوجدت وقائع جديدة، يريد أن يقفز فوقها، مقدّماً بدلاً عنها كومةً من الإسمنت. بني هذا المشروع على مرسوم مشبوه، له خلفية ديموغرافية تتعلق بالتهجير، تحت عناوين تنظيم العشوائيات، من دون الاقتراب من أكبر عشوائية في سورية، سكانها موالون، تمتد على مسافة خط نظر كيلومترين، تسمّى مزة 86. والتعديل بقانون رقم 10 أتى ليتيح لرجال أعماله توظيف أموالهم المسروقة لصالح سرقاتٍ جديدة. لكنّه، على الرغم من ذلك، فشل في جمع قيمة المشروع المالية، والمشروع يسير بتباطؤ يهدّد بتوقفه في أيّ لحظة… هذا نموذج إعادة الإعمار الذي يتبنّاه النظام، وينطوي على حربٍ جديدة بشكل آخر يتم فيها استغلال السلطة لإصدار القوانين، واستغلال القوة لفرض أيّ شيء. أما حلم الإعمار في ظلّ نظام كهذا فهو ضربٌ من الخيال.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت