لم يعد السوريون في مناطق سيطرة النظام يهتمون بالسياسة هذه الأيام. لم يهزُّهم خبر انسحاب القوات الأميركية والغربية من أفغانستان أخيراً، ولم يتوقفوا عند تداعياته، كما كانت عادتهم مع كل الحوادث في العالم. كذلك لم يخوضوا في زيارة رئيس بلادهم موسكو قبل أيام، ولا في دوافعها أو نتائجها المتوقعة، أو حتى في احتمال انعكاسها تغييراً في ظروفهم المعيشية. كل ما يشغلهم هذه الأيام ويقلقهم إمكانية الحصول على ربطة الخبز، والخوف من غياب هذه الإمكانية في اليوم التالي، في ظل ندرة عدد من السلع الأساسية في الأسواق السورية، والترويج الدائم لاختفاء سلع أخرى قريباً.
ومع كل صباح يومٍ جديدٍ، ينتظر السوريون أن تكون هنالك مصيبةٌ جديدةٌ تتحضَّر لتقع على رؤوسهم، ويتكرر بذلك سؤالان على ألسنتهم: ماذا بعد؟ وماذا أيضاً أكثر من الذي وقع؟ إذ باتوا على ثقةٍ أنهم سيستفيقون كل صباح على مصيبة جديدة، المصيبة التي سبقتها أهون إذا ما قورنت بها. أما تلك الـ “ماذا” فقد سيقت لتطاول كل ما يتوقعونه أو لا يتوقعونه. كان السؤال خلال الحرب: ماذا بعد الحرب؟ ثم تطاول السؤال، ليصبح ماذا بعد الأزمة المعيشية؟ وهي الأزمة التي لم تكن بهذا السوء خلال الحرب وطغيان المعارك. وكثرت الأسئلة من هذا القبيل؛ ماذا بعد الانتخابات الرئاسية؟ ماذا بعد خطاب القسم؟
وتبقى الأسئلة اليومية؛ ماذا بعد تقنين التيار الكهربائي إلى حد العتمة؟ وماذا بعد تقنين غاز الطبخ؟ ماذا بعد تقنين مادتي البنزين والمازوت؟ ثم كيف سيواجه السوريون برد الشتاء مع تراجع حصة العائلة إلى 50 ليتراً من مازوت التدفئة في السنة؟ يبقى السؤال الأهم: ماذا بعد تقنين مادة الخبز الذي أصبحت حصة الفرد بموجبه رغيفين وثلث الرغيف في اليوم؟ رغيفان وثلث؟ لا تكترثوا بهذه الحسبة! لدى الحكومة الحل لكيفية صرف هذا الثلث؛ تحصل في يومٍ على ثلاثة أرغفة ونصف، وفي اليوم التالي تحصل على رغيف وثلاثة أرباع الرغيف، ثم هنالك ثمانية أيام في الأسبوع لا تحصل فيها على الخبز، فيكون حاصل القسمة صحيحاً: رغيفان وثلث في اليوم، ويكون التوزيع عادلاً.
ربما كانت الصدمة التي تعرّضوا لها بعد خطاب القسم الذي تلا فوز بشار الأسد في انتخابات مايو/ أيار الماضي، حين تحدّث عن واقع التيار الكهربائي السيئ، ودعا إلى الاعتماد على الطاقة البديلة، المكلفة للمنازل، والتي تبيَّن أن الميسورين لا يقدرون عليها، فما بالك بالمُفقرين؟ وكانت تلك كلمة السر، حين أوضحت أن لا رجاء في تحسّن واقع الكهرباء. وبالتالي، استمرار شلل الحياة الاقتصادية وتغلغل الكآبة إلى نفوس أبناء الشعب بسبب العتمة. وهي أيضاً كلمة سرٍّ أدرك السوريون من خلالها أن كل الوعود التي منوا أنفسهم بها قد ذهبت أدراج الرياح. وزاد في الطين بلّة تصريح مستشارة الرئيس، لونا الشبل، إن الرئيس لم يَعِد السوريين بشيء قبل الانتخابات، معبِّرةً بذلك عن استغرابها من الآمال التي علقها السوريون على مرحلة ما بعد خطاب القسم.
إذاً، لا وعود ينتظر الشعب تنفيذها، حتى أن الحكومة الجديدة، والتي تشكَّلت بعد الانتخابات الرئاسية أخيرا، مارست أعمالها من دون أن تقدّم بيانها الوزاري إلى مجلس الشعب، لتنال الثقة على أساسه، كما هي العادة، وهو البيان الذي عادة ما يتضمّن خططاً عليها تنفيذها خلال مدة عملها. وإذا افترضنا أن أحداً من المسؤولين لم يقدِّم وعوداً للشعب السوري تنقذه من أزماته المعيشية التي يعيشها، ألا يتطلب الوضع الكارثي الذي تمر به البلاد عملاً من المسؤولين، وإنْ لم يكن من أجل الإصلاح، فعملٌ لوقف التدهور الذي قد يطيح بالمجتمع.
هل يمكن للساحة السورية أن تشهد تحولاتٍ جديدة، بسبب استمرار البلاد ضحية للاستقطاب الدولي والتجاذبات الدولية التي تتحكّم في مستقبلها وفي شكل الحل السلمي وفقاً لأهواء كل لاعبٍ، علاوة على انقطاع المبادرات الخاصة بالحل؟ تنبئ الأوضاع الاقتصادية والمالية واستمرار ظهور متحورات جديدة للأزمة المعيشية، لا يكاد المواطن يعتاد مشقّة العيش تحت ضغط مصاعبها، حتى تأتيه التالية ليبحث عن سبل التأقلم معها. ويشير غياب فرص التسوية إلى أن دوام هذا الحال أمر محتمل، ويُمكن أن يُدخِل البلاد في جمودٍ، قد لا يشهد إراقة مزيد من الدماء خلاله، لكن الدماء قد تتجمّد في عروق أبناء البلاد، مع مؤشّرات تعمّق الأزمات وازدياد كارثيتها. ويشي استمرار العقوبات والاحتلالات على الأرض السورية بأن هذا الواقع لن يشهد أي تطوراتٍ تُغيِّر فيه، أو تجبر الفاعلين على هذا التغيير.
في ظل هذا الجمود، تبدو روسيا، الفاعل الأهم على الساحة السورية، في ورطةٍ وضعت نفسها فيها، حين لم تضغط لإنجاح عمل اللجنة الدستورية من أجل الإسراع في صياغة دستور جديد، تجري على أساسه الانتخابات الرئاسية، تنفيذاً لقرار مجلس الأمن 2254 الخاص بالحل السياسي والتسوية في سورية، والذي كان وحده السبيل إلى إلغاء العقوبات الدولية على سورية. وبالتالي، البدء في إعادة الإعمار. وإضافة إلى تغييب فرص التسوية، أدّى الجمود إلى استمرار هذه العقوبات، فزاد من مشكلات روسيا، وأبعد فرصها وآمالها في الحصول على قطعةٍ من كعكة إعادة الإعمار. وكذلك أدّى إلى عدم استفادتها من العقود التي وقعتها مع الجانب السوري، لإدارة المرافق الاقتصادية من مرافئ ومطارات وغيرها، واستثمار حقول النفط والغاز على أرض سورية، وتحت مياهها الإقليمية. وبدا أن أي تأجيل للحل السلمي هو تأخير لروسيا في جني ثمار تدخلها العسكري لصالح النظام، وهو تأخيرٌ من غير المعروف أنها كانت تدرك إمكانية حدوثه، حين ماطلت في وضع قطار الحل على السكّة الصحيحة التي يمكن أن توصل إلى المحطة الصحيحة أيضاً.
لا أحد يدري إن كان إدراك روسيا هذا الواقع، هو ما دفعها إلى إصدار تصريحٍ على لسان نائب وزير خارجيتها، ميخائيل بوغدانوف، تحدّث فيه عن إمكانية إجراء انتخابات رئاسية مبكرة في سورية بعد سنة أو سنتين. وليس معلوماً إن كان سبب التصريح الذي صدر في 3 يونيو/ حزيران الماضي، أي بعد أيام من الانتخابات الرئاسية التي رعتها روسيا، والتي رفضت دعوات أطرافٍ دولية لتأجيلها، هو تقييمها ردود الفعل الدولية على تلك الانتخابات وإدراكها، متأخرةً، أن العقوبات الدولية ستستمر، ولن تحصد نتائج وازنة لتدخلها.
في هذا السياق، ربما يكون البحث عما يحرّك هذا الجمود في الملف السوري هو الدافع إلى عقد الاجتماع الذي جرى بين الرئيسين الروسي، فلاديمير بوتين، والسوري، بشار الأسد، في موسكو قبل أيام. وقد يكون الطرف الروسي قد التقط فكرة السماح بمرور الغاز والكهرباء من مصر والأردن إلى لبنان عبر سورية، ورأى فيها بداية تساهل الولايات المتحدة وتخفيفها العقوبات، لذلك جاء ذلك اللقاء للتحضير للمرحلة المقبلة. غير أن تساهل الولايات المتحدة مع الضرورات في العراق، على سبيل المثال، لجهة استجرار الكهرباء والغاز مؤقتاً من إيران، ومع سورية في الخطوة هذه، لا يمكن التعويل عليه في ملفاتٍ جذريةٍ من قبيل إزالة العقوبات بكاملها، وبدء مرحلة جديدة في التعاطي مع الملف السوري يشهد خلالها انفتاحاً. لذلك من المرجّح أن يستمر هذا الجمود، وأن يبقى السوريون يطرحون، ربما لسنوات عديدة مقبلة، سؤالهم اليومي: ماذا بعد؟
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت