سوريون في تركيا: ضبابيةٌ اللاستقرار وآمالٌ معلّقة بالهجرة
هيأت نسرين نفسها لرحلة لجوء، كانت قد أعدت لها منذ سنوات، فجهّزت حقيبتها منتظرةً اليوم الذي قد تفتح فيه اليونان، بوابتها لعبور الراغبين بالهجرة من تركيا لأوروبا، لكن تعثرت آمالها، إذ لم يحدث ما ترجوه، وكثيرٌ من السوريين في تركيا، الذين عادوا ينتظرون فتح باب الهجرة، إن كان من خلال ملفِ لجوءٍ قدموه للأمم المتحدة، أو عبر طرقٍ “غير قانونية”، توصلهم لما يقولون إنها “راحة البال” في أوروبا، والخلاص من تعقيداتٍ تنغصُ حياتهم الحالية.
تلاشت مؤخراً، آمال نسرين، وآلافٌ مثلها، فكروا أو ذهبوا فعلاً، نحو الحدود اليونانية التركية، منذ آواخر فبراير/شباط الماضي، بعد أن أوصِدَ هذا الباب منذ البداية، قبل بدء تفشي وباء “كورونا” المستجد، الذي قطع الشك باليقين، في أن طريقهم مسدود.
وكانت السلطات التركية، أعلنت في وقتٍ متأخر مساء الخميس 27 فبراير/شباط الماضي، أنها لن تمنع الراغبين بالهجرة من أراضيها نحو اليونان، وذلك في نفس اليوم الذي قُتل فيه أكثر من 35 جندياً تركياً، بقصفٍ في محافظة إدلب شمالي سورية، وهو ما دفع أنقرة التي كانت تخشى اجتياحاً روسياً لإدلب، وموجة نزوح جديدة نحو أراضيها، أن تزجَ بورقة اللاجئين، لتحصيل موقفٍ أوروبي داعمٍ لها في قضية إدلب.
“حمايةٌ” وحياةٌ “مؤقتة”
تقول نسرين (27 عاماً)، وهي شابة سورية مقيمة في تركيا وأم لطفلين، إنها تفاءلت “خيراً” عقب إعلان تركيا فتح حدودها البرية والبحرية أمام السوريين، للسفر نحو اليونان، إلا أن ما وردها من أخبار حول ظروفٍ “مُذلة” يعيشها السوريون(وغيرهم) على الحدود، جعلها تتروى في اتخاذ القرار والمجازفة بطفليها، خاصة أن أحد معارفها عاد من الحدود، بعد أن “تعرض للضرب من قبل الشرطة اليونانية”.
تعود قصة الشابة السورية، إلى عام 2014 حين قدِمت إلى تركيا هرباً من العمليات العسكرية في سورية، برفقة زوجها وطفليها، إلا أنها تعرضت لـ”عنفٍ أُسري”، كما تقول لـ “السورية نت”، أدى في النهاية إلى انفصالها عن زوجها بعد تدخّل الشرطة التركية، في الحي الذي كانت تعيش فيه في مدينة يلوا.
إلا أن ما لم تكن تتوقعه، هو تعرضها لتهديدات مباشرة من قبل طلقيها بالقتل وخطف الأطفال، على مدى شهور متواصلة من عام 2015، عاشت خلالها كما تقول “حالات هلع ورعب”، حتى نصحها مقربون بالتقديم على برامج اللجوء، التي تنظمها مكاتب الأمم المتحدة في تركيا، من أجل إعادة التوطين في أحد الدول الأوروبية، وبالفعل قدّمت نسرين ملفها لدى منظمة “آسام”، المختصة برفع ملفات اللجوء للأمم المتحدة، ولا يزال ملفها عالقاً منذ خمس سنوات.
توقعت نسرين أن يحظى ملفها باهتمام أوسع، على اعتبار أن شروط إعادة التوطين متوفرة في حالتها، كما قال لها الموظفون، إلا أن ما لم تكن تتوقعه هو تعرضها لموقف قانوني أدى إلى إلغاء بطاقة الحماية المؤقتة الخاصة بها (الكيملك)، بعد اضطراها للسفر عاجلاً من يلوا إلى اسطنبول نتيجة تعرض والدتها لعَرَضٍ صحي، دون أن تتمكن من الحصول على إذن سفر، تفرضه السلطات التركية على السوريين.
وقالت إنه تم توقيفها من قبل دورية تركية على الطريق، واحتجزت حسب روايتها في مركز الشرطة مدة 3 أيام، ثم سُحِبت منها بطاقة “الحماية”، لتتضاعف همومها، خاصة مع ملاحقة سلطات إسطنبول للسوريين الذين لا يحملون هذه البطاقة.
تقول الشابة العشرينية:”مع الأسف لا يوجد في تركيا نظام حماية ولجوء واضح، كالموجود في أوروبا، كما أن وضعي القانوني لا يساعدني على مواصلة حياتي هنا”، ولا تُخفِ “الحيرة” التي تملّكتها مؤخراً، لتقف في المنتصف بين انتظار ملف اللجوء “الشرعي” الذي يقبع على الرفوف منذ سنوات، أو المجازفة والتوجه نحو الحدود التركية- اليونانية، على أمل فتح الحدود، رغم أن ظروفها في تركيا تجبرها على ترجيح كفة “الحلم الأوروبي”.
ورغم أنها لا تملك الجرأة كما تقول، للمضي في البحر نحو أوروبا، إلا أن غيرها، ما زالوا يحاولون حتى اليوم، الوصول إلى اليونان، عبر طرقٍ غير قانونية، إذ تنشر وسائل الإعلام التركية، أسبوعياً، عن ضبط المزيد من الراغبين بالهجرة، إن كان بحراً أو براً.
آخرهم أمس الجمعة 1مايو/أيار، إذ قالت وكالة “الأناضول”، أن السلطات التركية، أوقفت شاباً سورياً، حاول الوصول بحراً، من منطقة “رأس حسين” في ولاية بودروم التركية، نحو جزيرة “كوس” اليونانية”، بواسطة آلة ركوب الأمواج.
وقبلها بيومين، تحدثت ذات الوكالة، عن زورقٍ يحمل 48 طالب لجوء “أنقذهم خفر السواحل التركي” بعد أن “أجبرهم خفر السواحل اليوناني” على العودة نحو السواحل التركية.
“الانتظار أفضل من المجهول”
على الضفة المقابلة لأحلام نسرين بالوصول إلى إحدى الدول الأوروبية، يقف الشاب السوري مهند (22 عاماً)، محاولاً هو كذلك الوصول إلى فرنسا تحديداً، بعد أن فقد الأمل ببدء حياة جديدة في تركيا، كما يقول.
ورغم اختلاف الظروف بين نسرين ومهند، إلا أن ما يجمعهما هو معاناةٍ جعلت العيش في تركيا بالنسبة لهما أمراً “معقداً وبحاجة إلى حلول عاجلة”.
وصل مهند إلى تركيا قبل سبعة أشهر تقريباً، قادماً من عفرين شمال غرب حلب، التي وصلها قبل سنة ونصف من غوطة دمشق الشرقية، عقب سيطرة نظام الأسد على بلدته هناك؛ وعلى اعتبار أنه دخل إلى تركيا بصورة غير شرعية (تهريب)، لم يستطع الحصول على بطاقة الحماية المؤقتة (الكيملك)، خاصة أن لديه بصمة في مدينة عفرين السورية، التي تشرف عليها السلطات التركية إدارياً، والتي تهجّر إليها مهند مع أهله، دون أن يعلم أن تلك البصمة ستمنعه من البصم مرة أخرى في تركيا، بموجب قوانين الحماية في البلاد.
اصطدام مهند بتلك العقبة، جعله يواجه مصاعب في التنقل داخل مدينة اسطنبول التي يعيش فيها، وشهدت منذ أشهر، حملةً مكثفة للسلطات التي ترغب بتخفيف أعداد السوريين فيها، ما يعني عجزه في الحصول على عملٍ أو البدء بحياة جديدة، طالما أن وضعه القانوني لا يسمح بذلك.
ورغم ضيق الأفق أمامه، كما يقول لـ “السورية نت”، وجد مهند أملاً “ضئيلاً” بالخروج من تركيا نحو فرنسا، بناءً على تجارب سابقة لبعض أصدقائه، الذين تقدموا بطلبات لجوء “سياسي” للسفارة الفرنسية في تركيا، ونجحوا في السفر إلى هناك بصورة قانونية، لاعتبارات متعلقة بكونهم ناشطون سياسيون أو حقوقيون أو إعلاميّون أو جرحى حرب.
وبالفعل قدّم مهند طلبَ لجوءٍ للقنصلية الفرنسية في اسطنبول، في يناير/كانون الثاني 2020، وقيل له إنه في حال لم يتم الرد على طلبه خلال مدى أقصاها 6 أشهر، فإن ملفه يكون قد رُفض.
لا يرى مهند مستقبلاً للعيش في تركيا، في وقت تكاد فيه الحلول تنعدم أمامه، إذ إن الهجرة بحراً إلى أوروبا غير واردة بالنسبة له، لعجزه عن دفع الكلفة المادية للمهربين (7 آلاف يورو كما طُلب منه)، كما أن برامج إعادة التوطين الأممية لا تتناسب مع ظروفه، على اعتبار أنها تُعطي الأولوية في القبول للعائلات والمرضى ومصابي الحرب.
اليوم، وفي ظل المتغيرات الحاصلة في ملف اللجوء نحو أوروبا، لم يبدِ مهند أي تفاؤل في فتح الحدود اليونانية أمام السوريين الراغبين باللجوء إلى أوروبا، مشيراً إلى أن هذا الخيار غير وارد أمامه، طالما أن الحدود مغلقة، وختم حديثه بالقول إن “الانتظار أفضل من المجهول”.
لم يغامر مهند بالسفر إلى مدينة أدرنة التركية، الحدودية مع اليونان، لكن آخرين فعلوا، وزحفوا بالآلاف، بمجرد إعلان أنقرة، أنها لن تمنع الراغبين بالوصول إلى اليونان، ما فتح باب تساؤلاتٍ عديدة، حول الظروف التي يعيشها هؤلاء، ودفعتهم للإقدام على مغامرة انتهت بالفشل.
قوانين وسجالاتٌ داخلية تنغصُ “الاستقرار الهش”
على مجموعة “واتس آب”، أنشأها سائقو سياراتٍ تنقل(تهريباً) بالأجرة، من يريد التنقل بين الولايات التركية من السوريين، ينسقُ سائق السيارة التي نقلت محمد.ش، من ضواحي أنقرة لمدينة إسطنبول، مع سائقين آخرين عبروا نفس الطريق الذي سيسلكه، ليتأكد أنه خالٍ من الدوريات، التي ستغرمُ سائق السيارة ومن معه من السوريين، في حال لم يحصلوا على اذن للسفر بين مدينتين تركيتين.
يقول محمد، الذي غادر سورية نحو تركيا منذ أربع سنوات:”رغم أنني مُسالم جداً وأملك بطاقة الحماية المؤقتة، وبالتالي وضعي قانوني في تركيا، لكن شعرتُ كأنني مطلوب أمنياً بجرمٍ أو ما شابه..سائق السيارة كل بضعة كيلو مترات، يتواصل مع نظرائهِ الذين عبروا نفس الطريق ليتأكد أن لا حواجز أمنية تُعيقُ تقدمنا نحو إسطنبول”، مُشيراً في حديثه لـ”السورية.نت”، أن “من الاستحالة، استخراج اذن السفر كلما أردت الخروج نحو زيارة أقاربي، أو قضاء عملٍ في إسطنبول”.
لم يفكر الشاب العشريني وهو جامعي، درس في سورية قبل مغادرتها، أكثر من “بضع ساعات قبل أن أحزم قراري بالمضي إلى أدرنة للهروب من هذا الواقع نحو أوروبا”، مضيفاً أن “وجودنا هنا محكومٌ بعوامل سياسية كثيرة، ومحفوفٌ بمخاطر سجالات الحكومة والمعارضة حول القضية السورية عموماً، وتواجد السوريين في تركيا خصوصاً..القوانين غير واضحة ولا تشجع على البقاء”.
فشلَ هذا الشاب كغيره، في العبور نحو اليونان، في مارس/آذار الماضي، بعد أن عاش على الحدود عدة “ايامٍ سوداء” كما قال، واضطر للعودة إلى ضواحي أنقرة، حيث استخرج “بطاقة الحماية المؤقتة”، وحيث “لا فرص عملٍ ولا فرصة للانتقال خارج هذه المنطقة لكون هذا من الممنوع علينا، ولا نعرف إلى متى”.
ورغم أن طرق الهجرة غير الشرعية، لا تُغلقُ تماماً، على مدار أيام السنة، ويبقى هناك منفذاً لبعض الراغبين بالمضي قدماً فيها، إلا أنها مُكلفة مادياً، كما أنها محفوفٌ بمخاطر شتى، لذلك يحاول سوريون آخرون، المضي في طرقٍ قانونية للهجرة؛ منها برامج “إعادة التوطين”، التي تحتاجُ وقتاً طويلاً، وقد تنتهي بالخيبة.
برامج “إعادة التوطين”: فرصٌ لم تقلّص الفجوة
لم ترتبط برامج “إعادة التوطين” الدولية، بملف اللجوء السوري، الذي يعتبر حديث العهد نسبياً، بل بدأت مفوضية اللاجئين، التابعة للأمم المتحدة، بتنظيم برامج كهذه منذ عام 1998، بالتعاون مع شركاء دوليين، لتوفير الحماية للاجئين من “الفئات الضعيفة” والمقيمين في بلد فقير لا يوفر لهم الحماية اللازمة.
إلا أن أزمة اللجوء السوري، فرضت على الأمم المتحدة وشركائها إجراء تعديلات على برامج إعادة التوطين، بحكم الأعداد “غير المسبوقة” من اللاجئين إلى أوروبا بطرق “غير مشروعة”، وعلى رأسهم السوريون، ما دفع المفوضية إلى توسيع برامجها لإعادة التوطين، منذ عام 2015، لتشمل 60 مكتباً ميدانياً في أكثر من 35 بلداً، بهدف الحد من الهجرة إلى أوروبا عبر البحر المتوسط وتعريض حياة طالبي اللجوء للخطر.
آلية إعادة التوطين، كما تُعرّفها مفوضية اللاجئين، تقوم على نقل اللاجئين من بلد اللجوء إلى بلد آخر وافق على قبولهم ومنحهم إقامة دائمة، ويشمل الأشخاص الأكثر تعرضاً للخطر، أو ممن لديهم احتياجات محددة لا يمكن معالجتها في البلد الذي طلبوا فيه الحماية في المقام الأول.
ورغم الإجماع الدولي على ضرورة مواصلة تنظيم برامج كهذه، تتحدث التقارير الأممية عن وجود فجوة كبيرة بين عدد اللاجئين الذين هم بحاجة فعلية لإعادة التوطين، وبين الأماكن التي توفرها الحكومات في جميع أنحاء العالم لاستقبالهم.
تلك الفجوة مرتبطة بارتفاع عدد اللاجئين حول العالم، خلال السنوات الخمس الأخيرة، خاصة من سورية والعراق وأفغانستان، وبين اتباع بعض الدول سياسات مشددة في أنظمة اللجوء، من منطلق اكتفائها بعدد اللاجئين الذين وصلوا إليها بصورة “غير شرعية”.
احتياجات 2020.. أرقامٌ تُنذر بأزمات
وفقاً لتقرير الاحتياجات العالمية لإعادة التوطين لعام 2020، والذي صدرَ أساساً قبل تفشي فيروس “كورونا” في العالم، فإن نحو مليون ونصف لاجئ يقيمون في 60 دولة حول العالم، هم بحاجة لإعادة التوطين عام 2020، نتيجة تعرضهم للخطر، 40% منهم سوريون، و14% من جنوب السودان، و11% من جمهورية الكونغو الديمقراطية.
ويشير التقرير السابق إلى أن 420 ألف لاجئ يقيمون في تركيا يحتاجون لإعادة التوطين في بلد آخر، خلال عام 2020، معظمهم سوريو الجنسية، على اعتبار أن تركيا تستضيف ما يزيد على 3.7 مليون لاجئ سوري، من أصل 5.8 مليون سوري لجؤوا إلى أوروبا ودول الجوار منذ عام 2011، حسب أرقام المفوضية الأممية.
وتغيب الأرقام الدقيقة حول عدد السوريين الذين تمت إعادة توطينهم من تركيا إلى بلد آخر، إذ تشير آخر إحصائية صادرة عام 2018 عن دائرة الهجرة التركية، إلى أن عدد السوريين الذين غادروا تركيا نحو أوروبا بلغ 14 ألفاً و210، وذلك في الفترة بين عامي 2014 و2018.
في حين يقول الاتحاد الأوروبي إنه استقبل منذ عام 2015 أكثر من 65 ألف شخص، ضمن برامج إعادة التوطين.