وسط القلق العالمي المتزايد على وقع تفشي جائحة “كورونا المستجد” (كوفيد 19) وما رافقها من آثار وتهديدات على عدة مستويات؛ أعلن نظام الأسد في 23آذار/مارس عن وصول الفايروس إلى سورية رسمياً، بعد التصريح عن إصابات وأولى الوفيات، مقابل إجراءات احترازية في محاولة احتوائه؛ لتتحول بذلك التخوفات إلى واقع يفتح الباب واسعاً أمام تحليلات آثار هذا الفايروس وتداعياته المتوقعة على عدة قطاعات ومستويات في البلد المُنهك. وعليه تحاول هذه الورقة تقديم قراءة تحليلية في الانعكاسات المحتملة على الملف السوري، خاصة في المستوى العسكري والجبهات المتعددة ضمن مناطق النفوذ الثلاث (معارضة، نظام، قسد)، إضافة إلى الآثار المحتملة على طبيعة التواجد الأجنبي في البلاد، مقابل العملية السياسية وآفاقها المتوقعة وسط المناخ الذي يفرضه الفايروس من البوابة الإنسانية وقابلياته للاستثمار السياسي.
العمليات العسكريّة (تراجعٌ حذر ونشاطٌ أمنيّ)
تبدو فرضية تجميد الجبهات وتقويض العمليات العسكرية التقليدية نتيجة انتشار الفايروس منطقية حتى الآن، على الأقل في الفترة الحالية، والمتمثلة بالمواجهة الأولى مع الوباء والارتباك في احتوائه ومعالجة آثاره المتعددة، خاصة مع التخوف من تفشيه داخل القطع العسكرية والمليشيات ومجاميع الفصائل، إضافة إلى عدم القدرة على فتح معارك كبرى، تلك التي من الممكن أن تؤدي إلى عدد كبير من الجرحى يزيد الضغط على القطاع الطبي المشلول أساساً في مناطق المعارضة، والعاجز في مناطق النظام، إضافة إلى ما قد يترتب على تلك المعارك من نفقات وميزانيات سيضطر النظام إلى حرفها باتجاه قطاعات أخرى.
ناهيك عن محاولات موسكو والنظام تجنب أي قصف جوي تقليدي يُخرجُ المزيد من النقاط الطبية والمستوصفات والمشافي عن الخدمة أو يستهدف البنى التحتية الرئيسية، وذلك لا يبدو خوفاً على المدنيين أو حرصاً على القطاع الطبي في تلك المناطق، وإنما تجنباً لحرج حقيقي أمام المجتمع الدولي في ظل جائحة تهدد الإنسانية، خاصة في الوقت الذي يسعى فيه النظام وحلفاؤه إلى استغلال هذا الظرف الإنساني لإحداث خرق في جدار العقوبات الاقتصادية (الأوروبية-الأمريكية)، إضافة إلى محاولات الإفادة منها كمدخل للتطبيع والمساعدات وإعادة العلاقات العلنية مع بعض الدول العربية-الخليجية، أو فتح قنوات تواصل جديدة عبرها باتجاه قوى مختلفة، قد تكون غربية.
وضمن إطار الإجراءات الاحترازية في مواجهة تفشي المرض؛ أصدرت القيادة العامة لجيش الأسد أمرين إداريين ينهيان الاحتفاظ والاستدعاء للضباط الاحتياطيين المحتفظ بهم والملتحقين من الاحتياط المدني، اعتباراً من 7 نيسان المقبل، لكن بشروط تحددها مدة الخدمة، إضافة إلى تسريح بعض دورات الاحتفاظ، فيما بدا تخوفاً من تفشي الفايروس داخل القطع العسكرية للجيش. مقابل موسكو التي اتخذت إجراءات احترازية صارمة داخل قاعدتها العسكرية في حميميم، إضافة إلى ضبط احتكاك جنودها بالضباط السوريين والسكان. في حين لا تتوافر معلومات دقيقة حول المليشيات الإيرانية، والتي سجّلت بحسب تقارير أعلى نسب إصابات داخل سورية، سوى نقل بعضهم إلى نقاط طبية في العراق للعلاج، عبر المعبر الوحيد الذي لم يغلق (البوكمال)، إضافة إلى عزل بعض مناطق نفوذهم كحيّ “السيدة زينب” في جنوب العاصمة دمشق، بينما اكتفى حزب الله في التصريح على لسان أمينه العام أنه “يقوم بفحص مقاتليه قبل إرسالهم إلى سورية حرصاً على عدم نقل العدوى إليها، وفحصهم أثناء عودتهم لضمان عدم نقلها إلى لبنان”. بما يشير إلى عدم تأثر تواجد الحزب بالفايروس والاكتفاء بالإجراءات الاحترازية، حتى الآن.
كل تلك الإجراءات، وما قد يلحق بها من قرارات أخرى على وقع تفشي الجائحة في البلاد، تشير، حتى الآن، إلى قدرة الفايروس على فرض هدنته الخاصة والحدّ والتقويض من العمليات العسكرية التقليدية، ولكن وفي الوقت نفسه لا يعني أبداً نهايتها أو تجميدها، بل قد تتخذ مبدئياً أشكالاً مختلفة تتراجع فيها المعارك الميدانية التقليدية لصالح تزايد النشاط الأمني واتخاذ تكتيكات جديدة تتناسب وتحقيق مصالح كل طرف.
فعلى الرغم من انحسار قصف النظام وحلفائه لمناطق المعارضة، إلا أن الخروقات للاتفاق الروسي-التركي استمرت من طرف النظام، عبر قصف صاروخي استهدف أرياف مدينة إدلب بتاريخ 31 آذار/مارس و 1نيسان/أبريل، بالإضافة إلى فتح النظام معارك محدودة على جبهات أخرى كالسويداء، حيث يخوض الفيلق الخامس اشتباكات متقطعة مع فصائل محليّة “رجال الكرامة”، مقابل ملاحظة زيادة وتيرة الاغتيالات في درعا بين صفوف قياديين في المعارضة السورية، ممن وقعوا على اتفاقية التسوية، الاغتيالات التي يُرجّح أن النظام يقف ورائها بشكل مباشر، إذ تأتي بعد اقتحام قواته في 18 آذار/مارس بلدات في ريف درعا الغربي، والذي أدى إلى مقتل وجرح عدد من الطرفين وتهجير 21 مقاتل إلى الشمال السوري.
ويقابل اغتيالات الجنوب، ارتفاع معدلات التفجيرات عبر السيارات المفخخة والاغتيالات التي طالت قياديين في “الجيش الوطني” ضمن مناطق “درع الفرات” و”غصن الزيتون”، إضافة إلى إدلب خلال الأسبوع الفائت، وعلى الرغم من تعدد الجهات التي قد تقف وراء اغتيالات الشمال، كغرفة عمليات “غضب الزيتون” التابعة لـ(PYD)، إضافة لخلايا “داعش” في المنطقة وبعض المجموعات المتشددة، إلا أن النظام وخلاياه يعتبرون أحد أبرز المتهمين بتلك العمليات، بينما تبنّت “قسد” اغتيال أحد القيادين في “الجيش الوطني”، ضمن محيط بلدة عين عيسى في ريف الرقة إثر استهدافه بصاروخ حراري بتاريخ 30 آذار/مارس، وادعائها أن ذلك جاء “رداً على محاولات تقدم للجيشين الوطني والتركي”، واللافت أن هذا التوتر في محيط البلدة سبقهُ بأسبوع وصول تعزيزات للنظام إلى محيطها.
“داعش” و”قسد” (تهديدٌ واستثمار)
بالمقابل، يُلحظ نشاط متزايد ولافت لتنظيم الدولة الإسلامية في ظل انتشار الفايروس، والذي وصفه التنظيم بـ “أسوأ كوابيس الصليبيين”، وذلك ضمن افتتاحية حول فايروس “كورونا” في طبعة 19 آذار/مارس من نشرة “النبأ” التابعة له، معتبراً أنهُ “سيُضعف من قدرات أعداء التنظيم وسيعيق إرسالهم للجنود لمحاربة المجاهدين، داعياً أنصاره إلى زيادة نشاطهم خاصة باتجاه تحرير الأسرى وتكثيف الهجمات التي تزيد من ضعف أعداء التنظيم”.
وقد كثّف التنظيم من عملياته باتجاه قوات “قسد” والنظام السوري على حد سواء، حيث أعلن عبر وكالة أعماق 29 آذار/مارس عن أسرّ عناصر من “وحدات الحماية” في ريف الحسكة وإعدامهم، كما تم تنفيذ سلسلة تفجيرات في مدينة الطبقة بريف الرقة، لم يتبناها التنظيم، ما دفع البعض لتوجيه الاتهام للنظام السوري في إطار محاولاته لتهيئة بيئة من الفلتان الأمني. وبالتزامن مع عمليات تنظيم الدولة في ريف الحسكة، أعلنت صفحات محليّة في دير الزور عن فقدان الاتصال مع مجموعة من المليشيات الإيرانية في بادية البوكمال إثر قيامها بجولة تفقدية، كما نشر التنظيم إصداراً جديداً حول عملياته العسكرية التي يقوم بها في البادية السورية، وتحديداً في قرى منطقة السخنة التابعة لريف حمص الشمالي، في محاولة منه لإيصال رسالة بأنه ما زال موجوداً، ويظهر التسجيل مهاجمة شاحنات وأرتال عسكرية لقوات النظام ، إلى جانب عمليات إعدام لمقاتلين قال التنظيم إنهم من عناصر النظام أو “لواء القدس” المدعوم إيرانياً.
وتزامن ذلك مع محاولات الاستعصاء والهروب التي نفذها عناصر التنظيم في سجن “الصناعة” ضمن حي غويران بمحافظة الحسكة، وهروب عدد منهم، وسط تصريحات متضاربة من قيادات “قسد” حول هذا الهروب، مقابل تصريحات المتحدث باسم التحالف، الكولونيل مايلز كاجينز، والتي خففت بشكل أو بآخر من وقع الحادثة، فيما يبدو أن قسد تسعى لتضخيمها، حيث اعتبر كاجينز أن “السجن لا يضم أي أعضاء بارزين في تنظيم داعش”، الأمر الذي قد يشير إلى مبالغة قوات سورية الديمقراطية في موضوع أسرى تنظيم الدولة وإثارة الموضوع بهذا التوقيت بالذات، وذلك ربما لتمرير المحاكم العلنيّة التي تدفع بها الإدارة الذاتية لمحاكمة عناصر تنظيم الدولة الذين ترفض دولهم استقبالهم، إضافة إلى استغلالها كورقة سياسية-أمنية لتحصيل المزيد من الدعم الغربي في إطار مكافحة الإرهاب. والأهم من ذلك، أنها تعكس أيضاً تخوف “قسد” من الانكفاء الذي يقوم به التحالف في العراق واحتمالية امتداده إلى سورية عبر تخفيض عدد الجنود أو إعادة انتشار محتمل شرق الفرات، خاصة وأن “قسد” اتبعت سلوك الاستثمار والتلويح بعودة “داعش” عدة مرات، ليس آخرها مع بدء العملية العسكرية التركية “نبع السلام” وإعلان ترامب سحب القوات الأمريكية شرق الفرات، حين أعلنت عن هروب سجناء من تنظيم الدولة، نتيجة القصف التركي الذي استهدف مواقع السجون، ليأتي بعدها تصريح ترامب في تاريخ 14/10/2019 ويتهم فيه قوات سورية الديمقراطية “بتسهيل هروب السجناء، لابتزاز القوات الأمريكية والتحالف الدولي”.
كما رافق نشاط التنظيم المتزايد في أرياف محافظات (الرقة، دير الزور، الحسكة)، رصد عبور عدد كبير من عناصر التنظيم الحدود السورية باتجاه الأراضي العراقية، ما دفع الحشد الشعبي في الجانب العراقي إلى جانب وحدات من الجيش العراقي “اللواء 44″ و”51” وعدة قطع عسكرية، وبإسناد من طيران الجيش ومقاتلة الدروع في “الحشد الشعبي”، للاستنفار وإطلاق عملية عسكرية جديدة ضد عناصر تنظيم الدولة تحت اسم “ربيع الانتصارات الكبرى”، بحسب بيان صادر عن الحشد الشعبي بتاريخ 30 آذار/مارس، وتزامنت العملية مع هروب عناصر التنظيم من سجن الحسكة، إضافة إلى عودة تحليق طيران التحالف في السماء السورية.
ويبدو أن تنظيم الدولة ينظر إلى آثار الفايروس كظروف ملائمة لإعادة تكثيف نشاطه العسكري وهجماته على عدة جبهات، الأمر الذي سيرتب ضغطاً مضاعفاً على قوات “قسد” في مناطق نفوذ الإدارة الذاتية، كما سيشكل بالنسبة لها مجال استثمار جديد لتحصيل المزيد من الدعم الغربي في مواجهة “داعش”. وعلى الجانب الآخر قد يشكل نشاط “داعش” استنزافاً لقوت النظام والمليشيات الإيرانية المتواجدة في ريف دير الزور الشرقي وبادية حمص، كما أن نشاط خلايا التنظيم قد يطال مناطق نفوذ المعارضة السورية عبر الاغتيالات والتفجيرات، الأمر الذي قد يعطي فرصة جديدة لهيئة “تحرير الشام” لتصدير نفسها كقوة محلية قادرة على ضبط الأوضاع الأمنية، والتي ستمثل لها بوابة للتنسيق مع قوى إقليمية ودولية، خاصة وأن مناطق المعارضة السورية قد لا تقتصر على نشاطات تنظيم الدولة، وإنما قد تفسح أيضاً المجال لبعض المجموعات المتشددة التي ستجد في الظروف الحالية والارتباك الأمني والعسكري فرصة ملائمة لتنفيذ عملياتها باتجاه عرقلة الاتفاق التركي-الروسي، أو باتجاه تصفية حسابات مع فصائل محددة في إطار الصراع على النفوذ، إضافة لاحتمالية زيادة نشاط خلايا النظام الأمنية، عبر التفجيرات والاغتيالات لزعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة.
التواجد الأجنبي (احتمالات الانكفاء والاستغلال)
على مستوى مختلف، يبدو أن فايروس “كورونا” فرض على بعض الدول سياسات عسكرية انكفائية، خاصة تلك المنتشرة قواعدها حول العالم، أو يمكن القول إنه سرّع من قرارات دول أخرى بالانسحاب من تلك القواعد وإعادة التموضع والانتشار، وفي إطار مناقشة آثاره على التواجد الأجنبي في سورية، يبدو من المفيد الدخول عبر بوابة العراق، فقد أعلنت الحكومة الفرنسية عن انسحاب قواتها من العراق 25 آذار/مارس، وذلك ضمن اتفاق مسبق مع الحكومة العراقية، في الوقت الذي قام فيه التحالف الدولي بتسليم 3 قواعد عسكرية (القائم، القيارة، كي1) من أصل 8 للقوات العراقية، والانكفاء باتجاه إقليم كردستان (قاعدة حرير) والأنبار(قاعدة عين الأسد)، وبدأ التحالف بسحب قواته التدريبية من العراق، في 20 من آذار الحالي، بعد تعليق برنامج التدريب، في إطار الإجراءات الوقائية لمنع تفشي “كورونا المستجد”، كما انسحب نحو 300 جندي من قوات التحالف منتصف آذار الحالي من قاعدة القائم.
وعلى الرغم من كون بعض تلك القرارات ليست جديدة، ولا يمكن فصلها عن سياق التوتر الأخير بين الولايات المتحدة وإيران وإعادة التحالف الدولي لتموضعه في العراق، خاصة على خلفية الاستهداف الأمريكي لقاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، والذي ترتب عليه بدفع من إيران، قرار البرلمان العراقي 5 كانون الثاني 2020 بضرورة خروج القوات الأجنبية من العراق، لكن وفي ذات الوقت لا يمكن إنكار دور “كورونا” في التسريع من تلك العمليات، خاصة بالنسبة للأوروبيين الذين باتوا ينظرون إلى العراق كساحة صراع ثنائية بين طهران وواشنطن، لا مكان لهم فيها، فيبدو أن كورونا شكّل فرصة مناسبة لتسريع عمليات الانسحاب وتعليق برامج التدريب.
وبينما يساهم الفايروس بتشكيل بيئة طاردة للقوات الأجنبية المتواجدة في العراق، يبدو أن إيران لن تفوت الفرصة في تخصيب تلك البيئة، خاصة باتجاه التواجد الأكثر تأريقاً لها، والمتمثل بالقواعد الأمريكية، وذلك عبر رفع وتيرة التهديد الأمني تجاه تلك القواعد من خلال التفجيرات أو الاستهدافات عبر مليشيات محليّة، في محاولة لتحفيزها وتسريع عملية الانكفاء، وهذا ما يتقاطع مع ما نشرته صحيفة “واشنطن بوست” عن مسؤول أمريكي رفيع لم تسمه، حول توافر معلومات استخباراتية عن هجمات قد تستهدف قواعدها من قبل إيران، عبر مجموعات محليّة تعفي طهران من التورط المباشر، كمليشيا حزب الله العراقي، إذ يبدو أن تفشي الجائحة في إيران لا يمنعها من استثمار المناخ الذي فرضته في دول نشاطها. ولكن وفي الوقت الذي ينسحب فيه التحالف الدولي من بعض القواعد؛ تعمل القوات الأمريكية على تعزيز مواقعها الحالية في العراق، عبر استقدام بطاريتي باتريوت تم نشر أحدها في قاعدة عين الأسد، والأخرى في أربيل، ويتم الحديث عن استقدام بطاريتين إضافيتين من دولة الكويت إلى الأراضي العراقية، ويبدو أن الإجراءات الأمريكية في تعزيز تلك القواعد تتناسب طرداً وحجم التهديد المتوقع لها.
وبمقاربة أثر الفايروس على القواعد الأجنبية في الظرف العراقي، إلى الحالة السورية التي تضم عدداً من القواعد الأجنبية، يبدو أن الظرف أيضاً قابل للاستثمار لتهديد تلك القواعد، وتشجيعها على الانكفاء، فعلى الرغم من عزلة القاعدة الأمريكية في التنف، بحكم بعدها عن مراكز المدن والاحتكاك، إلا أن هذا لا يعني أنها محصنة بشكل كامل ضد الفايروس، وكذلك باقي القواعد المتواجدة في شرق الفرات، والتي قد تشهد عمليات أو هجمات محتملة من قبل مليشيات محليّة، عملت إيران على إعدادها من فترة طويلة تحت اسم المقاومة الشعبية والتي ترفع شعارات ضد الوجود الأمريكي في سورية. إضافة إلى احتمالية تأثر باقي التواجد الأجنبي (فرنسي، بريطاني) وبرامجه على وقع زيادة تفشي المرض في سورية أو داخل تلك الدول، وما سيترتب عليه من إجراءات.
أما في غرب الفرات، حيث التواجد التركي وانتشار نقاط المراقبة، والتي تعتبر أيضاً شبه معزولة وتم رفع الجاهزية الطبية فيها، فإن الأخطار الأمنية عليها لا تبدو معدومة، فعلى الرغم من قرب تلك القواعد والنقاط من الأراضي التركية وتوافر طرق الإمداد والنقل السريع، والذي قد يخفف من أخطار تفشي الفايروس، إلا أن الظرف الحالي أيضاً يبدو مناسباً للعديد من الأطراف لرفع مستوى التهديد الأمني المحتمل لتلك النقاط، سواء عبر قوات النظام والمليشيات الداعمة لها، أو حتى بعض الفصائل الجهادية التي ترى في فتح الطريق الدولي m4 وتسيير الدوريات المشتركة تهديداً لنفوذها، خاصة وأن مختلف الجهات التي من الممكن أن تهدد نقاط المراقبة أو الدوريات التركية في هذه الظروف، تدرك وقع تفشي المرض في الداخل التركي، وانعكاس أي استهداف للجنود في هذه الفترة وما قد يسببه من حرج للحكومة التركية وتأزيم في الوضع الداخلي.
أما بالنسبة لإيران وميلشياتها أو القوات الروسية والمرتزقة المرافقة لها من الشركات الأمنية الخاصة، فمن المستبعد حتى الآن أن يؤثر الفايروس وتفشيه على تواجدها العسكري في سورية، إلا في حدوده الدنيا، المتمثلة بإعادة الانتشار والتموضع واتخاذ تدابير وإجراءات احترازية، وذلك على اعتبار أن طهران تعتمد على مجموعات مرتزقة، أغلبهم من غير الإيرانيين، وبالتالي لن تكون سلامتهم أولوية بالنسبة لطهران، وهذا ما حدث حتى على المستوى المدني في إيران، حيث أفادت التقارير الواردة من المدن الإيرانية عن سياسية عنصرية عالية في المستشفيات الإيرانية، والتي رفضت استقبال الأفغان والباكستانيين وغيرهم من الجنسيات المقيمين على الأراضي الإيرانية، وجعلت الأولوية للإيرانيين، لذلك فمن المحتمل ألا يتأثر النشاط الإيراني في سورية حتى الآن، بل وعلى العكس فقد تلجأ إيران إلى محاولات استثمار المناخ السياسي والعسكري قدر الإمكان لزيادة نشاطاتها العسكرية، ولعل الضربات الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت مطار الشعيرات في حمص تعد مؤشراً على استمرار تلك النشاطات.
ناهيك عن أن موسكو وطهران تشتركان بعدم تأثر السياسة الخارجية بالمعادلة الداخلية، بمعنى أن هذين النظامين ومعهما الصين والنظام السوري لا يعانون من التهديد الذي تشكله الحسابات الداخلية وارتفاع نسب تفشي المرض وزيادة عدد الوفيات على الحكومات والنظام السياسي، كما هو الحال في الديمقراطيات الغربية، وذلك بحكم طبيعة تلك الأنظمة الشمولية والديكتاتورية، والتي وعلى الرغم من انتظامها بذات الإجراءات الموحدة التي يتخذها العالم في مواجهة الفايروس؛ إلا أنها وبالوقت نفسه تنظر إليه كمجال استثمار سياسي وعسكري واقتصادي، سواء عبر تسهيل المساعدات للنظام السوري من مدخل “كورونا” والسعي لمحاولات رفع العقوبات الأوروبية-الأمريكية، أو استثماره كبوابة للتطبيع مع دول المنطقة وفتح قنوات تواصل جديدة، إضافة إلى كونه فرصة لمضايقة التواجد الأجنبي بأدوات مختلفة ومحاولة الدفع في التسريع بقرارات الانسحاب.
أما عن مدى قدرتهم في تحقيق ذلك والنجاح به، فهذا مالا يمكن التنبؤ به، إذا يتعلق بعدة عوامل على رأسها توسع خريطة انتشار المرض وسرعة تفشيه وزيادة مستويات تهديداته، وما سيبنى من استراتيجيات مضادة للدول في مواجهته، خاصة تلك المتعلقة بقواعدها المتواجدة في سورية.
المسارُ السياسيّ (مناورةُ الوقت وتفعيلُ المُعطّل)
في الوقت الذي قد تتراجع فيه النشاطات العسكرية خطوة بشكلها التقليديّ، أو تتخذ تكتيكات وأشكال جديدة تتناسب والمناخ الذي فرضه “كورونا المستجد”؛ تبدو الظروف ملائمة لفتح المجال السياسي ومحاولة تجميد الأوضاع وتثبيت وقف إطلاق النار من قبل الفاعلين الرئيسين في الملف السوري.
فقد عقد مجلس الأمن الدولي الاثنين 30 آذار/مارس، جلسة عن بعد عبر تقنية الفيديو، بحثت جوانب عدة أبرزها مكافحة انتشار فايروس “كورونا”، وسُبل تفعيل العملية السياسية وسير اتفاق إدلب، حيث توافق أعضاء المجلس على ضمان وقف العمليات القتالية في سورية، وتحقيق الهدوء اللازم لمكافحة الفايروس، ولم تستخدم أي من الدول الخمس دائمة العضوية، حق النقض (الفيتو)، ضد القرارات الصادرة عن المجلس، في موقف نادر الحدوث خاصة فيما يتعلق بالملف السوري.
كما شهد اليوم الأخير من شهر آذار/ مارس اتصالات متبادلة بين زعماء الدول الفاعلة في الملف السوري بخصوص سورية، حيث جمع اتصال ثنائي الرئيسين أردوغان وبوتين للحديث حول إدلب وتنفيذ الاتفاقات الروسي-التركية المتفق عليها في قمة موسكو 5 آذار/ مارس 2020، بحسب بيان صادر عن الكرملين والرئاسة التركية، وجاء هذا الاتصال بعد يوم واحد من اتصال ثنائي جمع دونالد ترامب وأردوغان، تناولا فيه سبل التصدي لجائحة “كورونا المستجد”، وخاصة في الدول التي تشهد صراعات مثل سورية وليبيا.
بالمقابل، دعا الاتحاد الأوروبي إلى وقف إطلاق النار في كامل الأراضي السورية، بما يسهم في التصدي للجائحة، ونقلت وكالة “فرانس برس” عن متحدث باسم المفوضية الأوروبية، الأحد29 آذار/مارس، أن “وقف إطلاق النار الذي أُقر حديثاً في إدلب لا يزال هشاً، وينبغي الحفاظ عليه وأن يشمل كامل سورية، “داعياً إلى القيام بمبادرة واسعة النطاق من أجل الإفراج عن المعتقلين في سجون النظام السوري، الدعوة التي سبقها مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سورية، غير بيدرسون، ببيان مماثل، طالب فيه “بإطلاق سراح المعتقلين في سجون النظام السوري بشكل واسع، منعاً لتفشي الفايروس، وأكد ضرورة وصول المنظمات الإنسانية بشكل فوري إلى جميع أماكن الاحتجاز، واتخاذ خطوات عاجلة لضمان الرعاية الطبية الكافية وتدابير الحماية في جميع السجون”.
وضمن هذا السياق يمكن فهم وتفسير دعوات المبعوث الأممي إلى سورية، غير بيدرسون، حول الدفع لتفعيل المسار السياسي، المتمثل باللجنة الدستورية المُعطلة، وإعلانه أن النظام والمعارضة توصلا إلى اتفاق على جدول أعمال اللجنة والجولة المقبلة، إذ يبدو أن بيدرسون يحاول تحقيق أي إنجاز وتقدم ملموس في ملف اللجنة الدستورية، مستغلاً المناخ الحالي الذي تفرضه الجائحة وما قد يؤمنه من غطاء دولي داعم، ولكن وبالوقت نفسه قد تعطي تلك الدعوات والاجتماعات مجالاً جديداً للنظام للمناورة وكسب الوقت، خاصة وأن أي اجتماعات محتملة للجنة لن تعقد فيزيائياً في الفترة الحالية نتيجة الإجراءات الاحترازية في مواجهة تفشي الفايروس، لذلك فمن المتوقع ألا تسفر الجولة الجديدة، في حال عقدها، عن أي نتائج جديّة، قياساً بالجولات السابقة، خاصة مع تمسك النظام بشروطه حول “الثوابت الوطنية” وسعيه المستمر للتعطيل والتمييع.
أخيراً، وضمن ما يفرضه فايروس “كورونا” من ارتباك على جميع اللاعبين المحليين والإقليميين والدوليين في الملف السوري، يبدو أن العمليات العسكرية ستتراجع خطوة حذرة إلى الخلف بمعاركها التقليدية، بالنسبة للاعبين الأصلاء ووكلائهم المحليين، مع احتماليات توسع الهوامش لتنظيم الدولة وبعض المجموعات المتشددة، مقابل منح المزيد من الوقت وإفساح المجال لمناورات سياسية جديدة بين الأطراف المختلفة، وتهيئة المناخ السياسي لإعادة تفعيل واستئناف المفاوضات التي من المحتمل أن تكون بثلاثة اتجاهات، الأول: والمتمثل بتفعيل المفاوضات بين النظام والمعارضة عبر الدفع في اللجنة الدستورية، والضغط على الطرفين في هذا الإطار. الثاني: والذي قد يتمثل بإعادة إحياء قنوات المفاوضات بين “قسد” والنظام، خاصة مع ارتباك وتوجس “قسد” من إعادة انتشار وتموضع محتمل لقوات التحالف في شرق الفرات، أما الثالث فقد يتجلى في محاولات النظام وحلفائه لاستثمار هذا المناخ، والسعي لفتح ثغرة في جدار العقوبات الأمريكية-الأوروبية، سواء عبر غض الطرف عن مساعدات خليجية قد تقدم للنظام، أو عدم فرملة التطبيع العربي تجاهه، بالمقابل فإن فتح وتفعيل تلك المسارات أو أحدها، لا يعني أبداً إحراز خطوات متقدمة فيها، بقدر ما يعني أنها استجابة لواقع فرضه “كورونا”، وإعادة ترتيب الأوراق والأولويات، والتي يبدو أنها ستبقى مرهونة بمدى انتشار الفايروس وما سيرافقه من آثار وتهديدات، ومدى تأثيره في الخطط الخاصة لكل دولة واستراتيجياتها الخارجية تجاه سورية.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت