شبحُ “قانون قيصر” يلوح: الخناق يضيق على الأسد وتخوف المواطنين
تكهنات كثيرة، تشغل الشارع السوري، هذه الأيام، حول مستقبل الاقتصاد وتأثير ذلك على حياة الناس، في ظل معطيات جديدة وتحديات قادمة، أبرزها خلاف الأسد- مخلوف، وتدهور سعر الليرة السورية إلى مستوى قياسي من جهة، وقرب تطبيق “قانون قيصر” وما يحمله من عقوبات “نوعية” على نظام الأسد من جهة أخرى.
وفيما يرى البعض أن الخروج من هذه “الكارثة” الاقتصادية، مُمكن، عبر حل الخلاف القائم بين الأسد ومخلوف، واتخاذ إجراءات استثنائية من حكومة الأسد، فإن التحدي الأكبر الذي لن يكون التعاطي معه سهلاً، هو ما ينتظر الاقتصاد السوري قريباً، أي قرب دخول “قانون قيصر” وما يحتويه من عقوبات، حيز التنفيذ، بعد أن فرضته الولايات المتحدة، نهاية العام الماضي، على أن يتم تفعيله في 8 يونيو/ حزيران 2020.
القانون بصيغته العريضة، يقضي فرض عقوبات على كبار المسؤولين في نظام الأسد، وهذا الأمر ليس جديداً، إلا أن الوقع الأكبر للقانون هو ربط رفع العقوبات بتقدم مؤشر الحريات في سورية، وتوسيع نطاق العقوبات لتشمل أي فرد أو كيان أو دولة تتعامل بشكل مباشر أو غير مباشر مع نظام الأسد ومؤسساته، وتدعمه اقتصادياً، ما يعني تضييق الخناق الاقتصادي عليه، بهدف الضغط لتقديم تنازلاتٍ لازمة لمسار الحل السياسي المتعثر.
تأثيرات “قيصر”.. من تشمل وما الهدف؟
وتسود مخاوف كبيرة في الشارع السوري، من تبعات تطبيق “قانون قيصر”، في ظل انهيار حاد قائم أساساً في مؤشرات الاقتصاد، وما تبعه من تردي إضافي في مستوى معيشة المواطنين بشكل أساسي، بسبب ارتفاع أسعار المواد الأولية وعدم تناسبها مع دخل الفرد، الذي لا يبلغ متوسطه 60 ألف ليرة سورية (ما يقارب 40 دولار أمريكي) شهرياً.
ويقول الدبلوماسي السوري السابق، والمقيم في واشنطن، بسام بربندي، لـ”السورية نت”، إن الأسواق السورية ستتأثر بديهياً بمجرد دخول “قانون قيصر” حيز التنفيذ، حيث سترتفع الأسعار وستنخفض القدرة الشرائية لعدد كبير من الناس، ما يفرض تحديات كبيرة على نظام الأسد لاحتواء الغضب الشعبي، خاصة من قبل الموالين له.
وفيما ترى الدول الغربية أن الهدف من العقوبات الاقتصادية هو الضغط على النظام وداعميه، للقبول بحل يُفضي إلى عملية انتقال “عادل” للسلطة، لا تغفل تلك الدول تأثيرات سلبية ستطال المواطن السوري بشكل مباشر، بعد تطبيق “قانون قيصر”، معولين بذلك على ضغط شعبي يجبر الأسد في النهاية على الرضوخ.
وبحسب بربندي، تكمن أهمية “قانون قيصر” بأنه وضع مؤشرات للإدارة الأمريكية لرفع العقوبات أو زيادتها على النظام، ومن بين تلك المؤشرات الإفراج عن المعتقلين، معاقبة مجرمي الحرب، تحقيق العدالة الانتقالية، وتشكيل جسم قضائي نزيه في سورية وغيرها، وفي حال تحقق ذلك يمكن رفع العقوبات عن الأسد.
وأضاف “قانون قيصر وضَعَ للسلطة التنفيذية في الولايات المتحدة آلية عمل لا يمكن تجاوزها، ومن بينها عدم التعامل القانوني مع النظام ورفض تمويل إعادة إعمار سورية في ظل غياب الحل السياسي”.
فيما يرى الباحث في “مركز عمران للدراسات”، محمد العبد الله، أن “قانون قيصر” في هدفه الاقتصادي العام يأتي اليوم في مرحلة يحاول فيها نظام الأسد وحلفائه الدخول في مرحلة عملية إعادة الإعمار، وتمهيد الطريق للدول الأخرى وجذبها للولوج في هذه العملية، وما سيتتبعها من مرحلة تعويم الأسد، وبالتالي كسب الرهان الاقتصادي والسياسي لكل من روسيا وإيران التي استثمرت في هذا النظام الكثير من الموارد الاقتصادية والعسكرية، لذا تحاول الولايات المتحدة تعطيل هذا المسار وكبح هذه الطموحات للنظام وحلفائه”.
ويضيف العبد الله في حديث لـ”السورية نت”، أن “حالة الاحتضار التي يعيشها الاقتصاد السوري حالياً، ستزيد سوءاً بمجرد دخول قانون قيصر حيز التنفيذ”، مشيراً إلى أن ذلك سيخلق “تداعيات سلبية كبيرة متمثلة بتفاقم عجز الموازنة، وارتفاع نسبة التضخم، وانخفاض القوة الشرائية للسكان مع التدهور المتواصل في قيمة الليرة السورية، إلى جانب ارتفاع الأسعار، وارتفاع معدلات البطالة، فضلاً عن ارتفاع معدلات الفقر لمستويات قياسية لم يعهدها الأفراد” في السنوات الأخيرة.
وتابع “مع تفاقم التأثير الاقتصادي على النظام في المديين المتوسط والطويل، تسعى الولايات المتحدة لتحقيق مكسب سياسي عبر تقديم النظام للتنازلات السياسية المطلوبة، مع بلوغه حالة لا يكون فيها قادراً على تأمين الاحتياجات الأساسية للمواطنين”.
ومع ذلك تحدث العبد الله، عن إجراءات أمريكية لتخفيف الآثار المحتملة لـ”قانون قيصر” على المواطنين، بقوله إن الولايات المتحدة تدرك تماماً الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها المواطنون داخل مناطق سيطرة النظام، لذا ستحاول بعد فرض القانون وجعله سارياً العمل على مراقبة مفاعيله في حياة الأفراد والمؤسسات من خلال لجان مراقبة، بحيث يتم الاستفادة من هوامش الحركة والاستثناءات ضمن هذا القانون، بما يخدم التخفيف قدر الإمكان من التأثيرات السلبية على المواطن العادي والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية ذات الصلة بمعيشته اليومية.
وأضاف أن مراقبة المساعدات المقدمة ضمن مناطق النظام، وتدقيق العمليات والأوضاع الإنسانية، ومنح الاستثناءات للمنظمات الإنسانية غير الحكومية والإجراءات الإنسانية الأخرى، سيسهم بشكل كبير في توجيه الدعم لمستحقيه والتخفيف من الآثار السلبية التي سيحدثها القانون في الاقتصاد السوري.
دعم الحلفاء.. “رهان خاسر من الأسد”
عوّل النظام على مدى 9 سنوات، ولا يزال، على دعم حلفائه سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، إلا أن طول أمد العمليات العسكرية، وتكاليفها الباهظة، والظروف الدولية الراهنة، قد تجعل من الصعب على الحلفاء الروس والإيرانيين الوقوف وراء الأسد مجدداً ضد “قانون قيصر”، وما يحتويه من عقوبات قد تطال الحليفين، المثقليّنِ بالعقوبات أساساً.
الدبلوماسي السابق بسام بربندي، يرى أن روسيا وإيران لن تستطيعا دعم النظام في مواجهة “قانون قيصر” لأسباب كثيرة؛ أبرزها انتشار فيروس “كورونا” في الدولتين واستنزاف الأموال داخلياً في محاربة الفيروس، خاصة في إيران، إلى جانب انخفاض سعر النفط وتأثير ذلك على اقتصاد الدولتين.
وأشار في حديث لـ”السورية نت” إلى أن اقتصاد روسيا وإيران يعاني بالأساس نتيجة الحصار والعقوبات الدولية، ما يعني أن دعم النظام في هذه المرحلة سيكون مُستهلِكاً لكلتا الدولتين، علاوة على أن عقوبات “قانون قيصر” نفسه سوف تطال حلفاء النظام في حال دعموه أو تعاملوا معه تجارياً.
واعتبر الدبلوماسي المقيم في واشنطن، أن روسيا حاولت سابقاً أن تلعب على وتر رفع العقوبات عن النظام وتمويل إعادة إعمار سورية مقابل إعادة اللاجئين السوريين إلى بلدهم، إلا أنها لم تنجح، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن “قانون قيصر” لن يسمح للروس بأي مراوغة أو ابتزاز سياسي، على اعتبار أن الأمر أصبح قانونياً ولم يعد سياسياً.
وأوضح أن “أي حوار بين الولايات المتحدة وروسيا بالشأن السوري سيكون تحت سقف قانوني، يعلو فوق السلطة التنفيذية في البلاد، وبالتالي إذا أرادت روسيا مشاركة الغرب بإعادة إعمار سورية عليها الالتزام بالمؤشرات المحددة ضمن قانون قيصر”.
وفي ذات الإطار، يرى الباحث في “مركز عمران للدراسات” أن قانون قيصر في إطاره الاقتصادي، يستهدف حليفي الأسد الرئيسيين؛ روسيا وإيران، ودفعهما لوقف الدعم الاقتصادي المقدم له، بهدف إجبار النظام على تقديم تنازلات سياسية.
وأضاف “لذا ستكون هناك مراقبة كبيرة للمؤسسات الحكومية وغير الحكومية والأفراد المعنيين بدعم النظام، وتعزيز كل الإجراءات التي من شأنها تقويض نفوذ إيران ومكافحة أنشطتها الاقتصادية الآخذة بالتوسع في سورية، إلى جانب تكبيله للطموحات الاقتصادية لروسيا ضمن هذا البلد في ظل مرحلة تتطلب توافر كتلة مالية ضخمة لإعادة إعماره وتثبيت دعائم استقراره اقتصادياً”.
وحسب العبد الله، لن يستطيع حلفاء النظام، على تقديم المعونة الاقتصادية له مع دخول “قانون قيصر” حيز التنفيذ، مشيراً إلى أن روسيا وإيران ستلعبان بالمقابل على وتر المعاناة الإنسانية التي سيسببها تطبيق القانون، وتسخير وسائلها الإعلامية في المنطقة للدفع باتجاه إلغاءه.
فسحة “محدودة” للنظام على هامش “قيصر”
رغم أن “قانون قيصر” بنصه العريض يمنع التعامل اقتصادياً مع نظام الأسد، وتوريد المواد التجارية له، إلا أنه استثنى في الوقت ذاته استيراد المواد الغذائية والطبية، تحت شروط.
الدبلوماسي السوري السابق، بسام بربندي، المطلع على تفاصيل “قانون قيصر”، قال إن الولايات المتحدة سمحت للنظام استيراد المواد الغذائية والطبية الأساسية، على أن يقدم لائحة للأمم المتحدة بالمواد التي استوردها وأسماء الشركات التي اشترى منها.
وأضاف بربندي، أن النظام لن يتبع الآلية السابقة، وسيتذرع بالعقوبات المفروضة عليه لتجويع شعبه.
وكذلك تحدث الباحث محمد العبد الله عن ذلك الاستثناء، بقوله إن النظام يملك هامشاً محدوداً جداً في “قانون قيصر”، يرتبط بالدرجة الأولى بتسهيل استيراد المواد الأساسية كالطحين والمواد الغذائية والأدوية وغيرها من المواد اللازمة للحياة اليومية.
ويتفق العبد الله مع بربندي بأن النظام قد يراوغ ويلعب على وتر المعاناة الإنسانية، مشيراً إلى أن النظام سيعمل على تعميق هذا التدهور في حياة المواطنين وتعميق معاناتهم، بحيث يمكن البناء عليها للمطالبة برفع القانون من جانب إنساني، بسبب الآثار التي يحدثها على المواطنين.
هل يمكن للأسد الالتفاف على القانون؟
اعترف رأس النظام السوري، بشار الأسد، في لقاء مع مجلة “PARIS MATCH” الفرنسية، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أن العقوبات الغربية أعاقت بالفعل الاستثمار الأجنبي في سورية وعملية إعادة الإعمار، مؤكداً في الوقت ذاته أنه بالإمكان الالتفاف على تلك العقوبات.
الالتفاف كان يتم بالغالب عن طريق وسطاء بين النظام والجهة التي ترغب التعامل معه، إلا أن قانون قيصر سوف يطال جميع الأطراف والهيئات والشخصيات التي تقوم بتأسيس علاقات تجارية أو مالية مع النظام، لمنع التحايل والالتفاف، وهذا بدوره يشكل ضغطاً كبيراً على “أمراء الحرب” والسماسرة والتجار الوسطاء الذين يبيعون للنظام بالسر، بحسب الدبلوماسي السابق، بسام بربندي.
واعتبر الأخير، أن النظام كان يلتف سابقاً على العقوبات عن طريق تهريب المواد التي يحتاجها، عبر لبنان، لكن اليوم لن يُسمح له بذلك بالنظر إلى الأوضاع المتردية هناك؛ إذ إن البنوك التي تعتبر الوسيط المالي للنظام، أصبحت تعاني من أزمات كبيرة وانهيار أكبر، كما أن ثروات النظام وكبار مسؤوليه والتجار الداعمين له، والتي كانت مودعة في لبنان أصبحت في خطر كبير.
فيما يرى الباحث في “مركز عمران”، محمد العبد الله، أن “قانون قيصر” في جزء منه أعطى حرية للشركات المحلية التي لا تربطها علاقات مباشرة مع النظام ولا تدعمه بشكل مباشر، ممارسة أعمالها وأنشطتها بما لا يخالف بنود القانون، وبالتالي فإن نظام الأسد سيعمل بشكل مستتر على تسخير نفوذه الداخلي لاستغلال كل الشركات التي لا تقع في إطار قانون العقوبات لصالح دعم مقومات بقائه.
وتوقع العبد الله، أن يقوم حلفاء النظام في العراق بتأسيس المزيد من الشركات الوهمية للالتفاف على القانون، وتأمين احتياجات النظام، في ظل القيود والمراقبة الأمريكية المفروضة على الشركات اللبنانية المتعاملة معه، مع غياب أي دور فاعل للشركات الأردنية بهذا الصدد.
وتابع “في المراحل الأولى من تطبيق القانون سيعتمد النظام على شبكاته القديمة لامتصاص تأثير تلك العقوبات، لكن مع مرور الوقت سيتم كشف هذه الشبكات وتفكيكها. وبناء على الخبرة المتراكمة لدى النظام في التعامل مع العقوبات الدولية عبر العقود الماضية، أعتقد أنه سيستفيد من أي ثغرات ضمن هذا القانون بالتعاون مع حلفائه وشبكاته الداخلية والخارجية”.
ما هو “قانون قيصر”؟
طُرح “قانون قيصر” للمرة الأولى على طاولة الكونغرس الأمريكي عام 2016، وسُمي بذلك نسبة إلى المصوّر العسكري المنشق عن النظام عام 2014، والذي سرب 55 ألف صورة لمعتقلين في سجون الأسد، تثبت مقتل أكثر من 11 ألفاً منهم.
وعُرضت تلك الصور في مجلس الشيوخ الأمريكي، حيث أثارت الرأي العام العالمي، وسط مطالب بفرض عقوبات على نظام الأسد وداعميه، وتم طرحه على الكونغرس كمشروع قرار “لحماية المدنيين” في سورية، إلا أنه واجه عراقيل عدة وطرأت تعديلات على نصوصه.
وينص “قانون قيصر” بصيغته النهائية، على فرض عقوبات على كبار المسؤولين والقادة العسكريين في نظام الأسد وعائلته، بمن فيهم عقيلته أسماء، بالإضافة إلى توسيع نطاق العقوبات الاقتصادية على سورية، لتشمل قطاعات رئيسية عامة يقودها أشخاص في حكومة الأسد، أو أي شركات خاصة تدعمه في مسألة إعادة الإعمار، إلى جانب “البنك المركزي السوري”.
كما ينص القانون على تقويض داعمي الأسد، وبالتحديد روسيا وإيران، عبر فرض عقوبات مباشرة عليهما، تشمل مسؤولين حكوميين وشركات الطاقة التابعة لهما، بالإضافة إلى أي جهات تساعد الأسد في مسألة إعادة الإعمار.
وبحسب الباحث في “مركز عمران” محمد العبد الله، فإن “الأهداف المتوخاة من تطبيق قانون قيصر سترتبط بمتغيرين أساسيين، أولهما مدى جدية الولايات المتحدة بتنفيذ بنوده، وهي التي كانت قادرة في سنوات خلت على إزاحة النظام قبل الوصول إلى هذا الوضع المتأزم في سورية”، على حد تعبيره.
المتغيّر الثاني، الزمن ودعم الحلفاء، الذين يراهن عليهما نظام الأسد لتجاوز الآثار المرتبطة بتطبيق القانون. لكن بين هذين المتغيّرين، فمن المتوقع بداية، أن تتفاقم المأساة التي يعيشها ملايين السوريين، بالوقت الذي يبحث فيه النظام عن مخرجٍ من العقوبات.