في مناطق شرق الفرات شمال شرقي سورية، تدور لعبة توازنات مفتوحة، بين ثلاث قوى محلية على الأرض وثلاثة أطراف دولية، ورغم أن قواعدها غامضة إلى حدٍ ما حتى الآن، إلا أنها وحسب الواقع الذي تفرضه، من شأنها أن تؤسس لمشهدٍ جديد بخريطة جديدة، ليست الكلمة فيها حكراً على دولة واحدة أو تشكيل محلي فقط، بل تتشابك فيها الأيادي، ومعها تتداخل الأهداف والغايات.
الأخبار القادمة من الشرق لم تخلو على مدار الأشهر الماضية، من لقاءات واجتماعات مستمرة، تصدّرتها “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، والتي تعتبر صاحبة اليد الطولة على الأرض، من خلال المساحة الجغرافية التي تنشط بها، وعقدتها مع الجانب الأمريكي من جهة، وروسيا من جهة أخرى، بالإضافة إلى شيوخ ووجهاء العشائر من الحسكة وريفها إلى دير الزور.
آخر الاجتماعات وأبرزها، كانت مطلع شهر يوليو/تموز الحالي، إذ التقى قائد “قسد”، مظلوم عبدي وبفاصل زمني قصير (ثلاثة أيام) قائد القوات الروسية في سورية، والجنرال فرانك ماكينزي قائد القيادة المركزية في الجيش الأمريكي، ليتبعها بلقاءات ثلاثة مع شيوخ وعشائر دير الزور، قيل إنها جاءت لبحث تطورات المنطقة، والمستقبل الذي ستكون عليه في الفترة المقبلة.
ما سبق رافقه تحركات عسكرية من جانب نظام الأسد، وخاصةً في ريف الرقة الجنوبي، وحسب ما ورد من مصادر موالية لنظام الأسد، فإن قوات الأسد بدعمٍ روسي تجهّز لعملية عسكرية، لم تحدد خططها وأهدافها حتى الآن، من أجل السيطرة على مساحات جديدة، في مناطق شرق سورية، ولاسيما بعد سلسلة حوارات لم تفضٍ إلى شيء ملموس بين “مجلس سوريا الديمقراطية” ونظام الأسد.
وبالعموم فإن التحركات التي تشهدها مناطق شرق سورية متسارعة، وتأتي من قبل الأطراف الفاعلة على الأرض، دون تبيّن المغزى منها، على وجه التحديد، وسط غموض الاستراتيجية، سواء التي تسير عليها أمريكا وروسيا من جهة، وتركيا من جهة أخرى، وهي الدول الفاعلة في المنطقة، والتي بدورها تدعم قوىً محلية على الأرض.
تنسيق “على الحبلين”
من مجموع اللقاءات التي أجراها قائد “قسد”، مظلوم عبدي، يمكن اعتبار اجتماعه مع قائدي القوات الروسية والأمريكية الحدث الأبرز، والذي تصدّر مشهد مناطق شمال شرق سورية، خاصةً أنها اجتماعات جاءت بالتزامن، ومع دولتين تتضارب مصالحهما على الأرض السورية.
الباحث في “مركز عمران للدراسات الاستراتيجية”، بدر ملا رشيد، ربط في حديثٍ لـ”السورية.نت” ما جرى من لقاءات بين مظلوم عبدي والجانبين الروسي والأمريكي، بالتطورات التي فرضتها عملية “نبع السلام” التي أطلقها الجيش التركي، مؤخراً، على الشريط الحدودي.
ويقول الباحث إن قرار الانسحاب الأمريكي وعملية “نبع السلام” أدت “لتغيير خارطة النفوذ على جغرافية شرق الفرات، وتحولت من تفردٍ أمريكي خالص إلى محاولة تقاسم المنطقة بين واشنطن وموسكو”.
وخلال الأشهر الماضية زادت محاولات روسيا التوسع في المنطقة أكثر على حساب أمريكا، يضيف الباحث: “بالأخص في مرحلة ما قبل فرض عقوبات قانون قيصر، وفي هذا الاتجاه حاولت موسكو تشكيل فصيل عسكري في المنطقة يكون موالياً لها، ويبدو أنه فشل للآن، لذا استعانت موسكو مؤخراً بعناصر النظام لمزاحمة الدوريات الأمريكية أكثر في المنطقة”.
الأجواء السابقة التي فرضت على مشهد شرق سورية، أفضت بإحدى فصولها إلى الزيارات الأخيرة، للمسؤولين الروسي ولاحقاً الأمريكي.
ويرى الباحث ملا رشيد أن “تنازع القوتين في المنطقة يضفي بظلاله على الأوضاع الأمنية وعلى الاحتمالات المستقبلية”، معتبراً أنها “في المقام الأول زيارات تحاول زيادة التنسيق على الأرض، علاوة على ذلك هناك أهمية كبيرة لموقف الدولتين في حال وصول الأطراف الكُردية لصيغة اتفاقٍ بينية، فآنذاك من الضروري أن يتم نقل صيغة التوافق المحلية لأخرى بين القوى العظمى، وإلا سيبقى الاتفاق معرضاً للتجاذبات بين الطرفين”.
وبوجهة نظر ملا رشيد، فإنه يمكن “إضافة عنوان الاستمرار في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية كأحد عناوين اللقاء بقائد القوات المركزية بالجيش الأميركي، حيث أن التنظيم عاد للنشاط أكثر في محيط مدينة دير الزور والبادية السورية”.
أما مع الجانب الروسي ترتبط اللقاءات بالأنباء التي تتحدث عن قرب عملية تركية جديدة على محور عين عيسى -كوباني، “فضلاً عن أن موسكو تحاول ممارسة أدوات مختلفة للضغط على قسد، سواءً لكسبها إلى جانب النظام وضمها لقواته، أو لزيادة الشكوك والمخاوف لدى قسد حول المواقف الأمريكية المبهمة من البقاء أو الرحيل عن سورية”.
كيف تفكّر “قسد”؟
تعيش “قسد” في الوقت الحالي ظروفاً تختلف بشكل جذري عن السابق، سواء على المستوى المحلي وضمن “الحاضنة الشعبية” أو من الناحية العسكرية، بعد الانتهاء من تنظيم “الدولة الإسلامية”.
وكبوابة للواقع العام الذي تعيشه “قسد”، تعتبر عملية “نبع السلام” المرحلة الفاصلة التي أفضت إلى حال مناطق شرق الفرات الحالي، بعد سيطرة الجيش التركي وفصائل “الجيش الوطني” على مدينتي رأس العين وتل أبيض، وما تبعها من اتفاق فتح الباب لقوات الأسد والقوات الروسية للدخول إلى المنطقة.
ويرى الباحث سقراط العلو أن استراتيجية “قسد”، وعقب إعلان الانسحاب الأمريكي وتراجع أهميتها لدى الأمريكان كـ”قوة عسكرية”، اتجهت إلى حماية نفسها، عبر التواصل مع جميع الأطراف، سواء أمريكا أو روسيا أو نظام الأسد أو الوساطات العربية، كمصر والإمارات والسعودية، مركزةً بذلك على العمل بشكل براغماتي، لتحقيق مصالحها.
ويقول العلو لـ”السورية.نت” إن الدفع الأمريكي والفرنسي لـ”قسد” حالياً للحوار مع “المجلس الوطني الكردي”، يأتي بهدف “تضييع هويتها كتنظيم إرهابي (فرع لـpkk)، وإعطائها شرعية المجلس، في خطوة لتكون تحت مظلة كردية شاملة”،
ويضيف العلو: “خبرتنا السابقة مع pyd بعد عملية نبع السلام، فإنه وعندما يلمس حالة جدية من الأتراك، واتفاق أمريكي-تركي لتوسيع نفوذ الأخير على حسابه، سيكون المخرج هو روسيا والنظام لتسليم المناطق مرحلياً، لحماية نفسه من معركة شاملة”.
في حين حدد الباحث، بدر ملا رشيد ثلاثة اتجاهات ترتكز عليها استراتيجية “قسد”، أولها “الحفاظ على ما تبقى من جغرافية تحت سيطرتها، والناتجة عن اتفاق بوتين-أردوغان 2019”.
أما الاتجاه الثاني، حسب الباحث فهو “الحصول على استثناء فيما يخص تطبيق قانون قيصر”، إلى جانب اتجاه ثالث لاستراتيجية “قسد” يقوم على “خلق نوع من الاستقرار المحلي، بالوصول لصيغة توافق مع المجلس الوطني الكردي، والتي يمكن نقلها في مرحلة لاحقة لاتفاق مع الأطراف السورية الأخرى، وبالأخص المعارضة السورية”.
ثلاثة أهداف لأمريكا
ضمن التحركات المتسارعة التي تشهدها مناطق شمال شرق سورية، تفيد الأنباء المتكررة الواردة من ريفي الحسكة ودير الزور عن تسابق محموم بين القوات الروسية ونظيرتها الأمريكية للفوز بمناطق استراتيجية للتثبيت بها، وهو أمر كان قد تبع الدخول الروسي إلى المنطقة، بعد الفراغ المؤقت الذي فرضه الانسحاب الأمريكي من بعض المناطق، في أثناء عملية “نبع السلام”.
السباق ورغم أنه تمثل بإقامة قواعد عسكرية على الأرض، سواء في القامشلي من جانب روسيا، أو في مناطق أخرى من الحسكة من الجانب الأمريكي، انسحب إلى مسارات أخرى، وبحسب واقع مناطق شرق سورية، قد تكون كأوراق رابحة، كونها ترتبط بالمجتمع المحلي على الأرض.
ومما لاشك فيه أن ما وصلت إليه مناطق شرق الفرات، يرتبط بالاستراتيجية غير الواضحة للولايات المتحدة الأمريكية، والتي تبدلت، مؤخراً ما بين الانسحاب والبقاء، وصولاً إلى إعادة التموضع.
وبعيداً عن الأمس، وما شهده من تطورات، هناك استراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية شرق الفرات من ثلاثة أهداف، حددها الباحث، سقراط العلو.
الهدف الأول، حسب العلو هو منع عودة تنظيم “الدولة الإسلامية”، بالإضافة إلى هدف ثانٍ بحصار وخنق نظام الأسد، عبر السيطرة على آبار النفط، وحرمانه منها، ضمن جزئية “الحصار الاقتصادي التي تبلورت في عهد ترامب”.
الهدف الثلاث، وهو الأبرز يحدده العلو بـ”الرقابة على الطريق الإيراني”، مشيراً إلى أن أمريكا تنتشر قواتها في الباغوز وهجين، القريبة من الحدود العراقية، كما أقامت قواعد عسكرية في تلك المناطق.
ويعتبر العلو أن أمريكا تولي أهمية لدير الزور أكبر من المناطق الحدودية، موضحاً “لذلك الأمريكي اليوم أبدى استعداده للتنازل عن المناطق الحدودية مع تركيا، لإرضاء الأتراك وإدخال الروس من طرف آخر (…) الأهمية باتجاه دير الزور أكبر، وإمكانية تنازله على الحدود لا تؤثر على وجوده”.
ومن زاوية أخرى يرى الباحث، بدر ملا رشيد أن أمريكا لم يكن لديها استراتيجية واضحة، قبل قرار الانسحاب، إلا فيما يخص محاربة “تنظيم الدولة”.
يضيف الباحث: “بعد العودة عن الانسحاب أعلنت واشنطن عن أسبابٍ أخرى لبقائها في سورية، تمثلت بمنع التمدد الإيراني في المنطقة، ومنع النظام من الحصول على النفط لضمان استمرار الضغط عليه”.
أما مؤخراً ومع الدفع الأمريكي لبدء “حوار كُردي بيني”، يتابع الباحث: “تظهر محاولة أمريكية لم تتطور إلى الآن لاستراتيجية في اتجاه إرساء نوع من الاستقرار المحلي شرق الفرات، بصبغة سياسية، على خلاف النسخة السابقة التي كانت عسكرية خالصة”.
موسكو تعمل على مسارين
بالانتقال إلى روسيا، فالاستراتيجية التي تعمل عليها في مناطق شرق الفرات، غير واضحة المعالم تماماً حتى الآن، لكنها تصب في صالح نظام الأسد، وتناور بها ما بين تركيا من جهة والولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى، بالإضافة إلى الطرف الأبرز على الأرض “قوات سوريا الديمقراطية”.
وفي ظل الحديث عن الحشود الأخيرة لقوات الأسد، في ريف الرقة الجنوبي، والذي روجت له وسائل إعلام روسية، بينها “سبوتنيك” ووكالة “anna”، رجح مراقبون إلى احتمالية بدء عملية عسكرية من جانب قوات الأسد، بدعم روسي، الأمر الذي قد يفضي إلى صدام عسكري ما بين الروس والأمريكان.
ويستبعد الباحث، بدر ملا رشيد أن تصل العلاقة بين الطرفين (روسيا، أمريكا) إلى الصدام العسكري المباشر.
ويوضح: “مع تفعيل قانون قيصر، وبقاء الولايات المتحدة ستحاول موسكو العمل على مسارين: أولها زيادة الضغط على واشنطن في محاولة للوصول إلى منابع النفط، والآخر محاولة المهادنة في اتجاه الاستفادة من الحلقة الاقتصادية في المنطقة بوجود الطرف الأمريكي، للمحافظة على وصول النقد الأجنبي لها، سواءً عن طريق المنتوجات المحلية من نفط وقمح، أو الأموال المرسلة من المغتربين، أو المشاريع التي تنفذها المنظمات الأجنبية”.
وعن العلاقة التي يمكن تقييمها بين “قسد” وروسيا في الوقت الحالي، يرى الباحث ملا رشيد أن “هناك تفاهمات بين قوات قسد والروس”.
ويشير إلى أن “اتفاق بوتين-أردوغان 2019 حول المنطقة الآمنة يتم تنفيذه في الداخل بالتنسيق بين قسد والقوات الروسية، كما أن موسكو حاولت سابقاً التنسيق بين النظام والإدارة الذاتية للوصول إلى صيغة توافقية حول إدارة المنطقة”.
بالإضافة إلى “تعاون بين الطرفين فيما يخص مواجهة تنظيم الدولة، والعلاقات التجارية الثلاثية موسكو – النظام – الإدارة الذاتية، والتي تُنفذ عبر تجار محليين”.
توافق مع موسكو.. وعلاقات مع واشنطن
عند استشراف المستقبل الذي ستكون عليه مناطق شرق الفرات، لا يمكن استبعاد الطرف التركي، ولاسيما أن أنقرة وحتى الآن لم تتمكن من تأمين الحد الأدنى لها حتى اليوم، سواء المناطق التي تحقق أمنها “الاستراتيجي”، أو حصتها في ساحة النفوذ على الساحة السورية.
ويتفق المحللون أن تركيا تتحرك على طول حدودها، بـ “استراتيجية النفس الطويل”، وهو ما تم تطبيقه في مناطق “درع الفرات” وعملية “غصن الزيتون”، ومؤخراً عملية “نبع السلام”، والتي لم تكتمل حتى الآن، وقد تستكملها أنقرة، على طول الشريط الحدودي.
الاستراتيجية التي تعمل تصر عليها أنقرة شرق الفرات، حسب الباحث، سقراط العلو ترتكز على “منع قيامة أي كيان كردي، وهي تتوافق بهذا الطرح مع النظام السوري وروسيا”.
ويقول العلو: “النظام ليس بصالحه إعطاء أي حكم ذاتي للإدارة الذاتية، بينما قد تقبل روسيا بفكرة لامركزية إدارية، لكن على مستوى سورية، وليس مركزية محددة في منطقة كردية”.
ويعتقد الباحث بأنه وبعد اجتماعات “أستانة” قد يكون هناك “توافق تركي-روسي-إيراني على تكرار سيناريو تل أبيض ورأس العين، من خلال التلويح بعملية عسكرية، ما يدفع قسد للذهاب إلى الروس، كونهم المخرج الوحيد”.
وإلى جانب ما سبق يرى الباحث في مركز عمران، بدر ملا رشيد، أن تركيا وإلى الآن “متواجدة بشكلٍ قوي ضمن كافة التفاعلات شمال سورية وشمال شرقها”.
ويقول: “المنطقة الآمنة تتم عبر دورياتٍ روسية تركية مشتركة، كما أن الحوارات الكُردية البينية تتم إلى الآن بناءً على عدة مبادئ أساسية”.
ومن المبادئ، حسب الباحث “ما يتعلق بمطلب تركيا والمطلب المجتمعي في تقليص سلطة عناصر حزب العمال الكردستاني وإنهائها، ضمن هيكل الإدارة الذاتية، وقوات سوريا الديمقراطية”.
ويشير إلى أن “المراهنة التركية دوماً تكون على علاقاتها الاستراتيجية مع واشنطن وتوافقاتها مع موسكو، بالإضافة إلى العوامل الذاتية التركية، المتمثلة بكونها إحدى الدول الإقليمية المتمتعة بقوة عسكرية ضخمة، وعلاقات دولية تخدمها في تحقيق أهدافها، سواءً على الخارطة السورية، أو في مناطق أخرى من الشرق الأوسط وشرق المتوسط”.