منذ عامٍ ونيّف تثور نقاشات موسّعة في أوروبا وأميركا وأغلب دول العالم عموماً حول وباء كورونا، والموضوع لا يتوقّف عند الأسباب وطرق الوقاية والعلاج، ولا عند الآثار الكبيرة اللاحقة باقتصادات الدول والخسائر في قطاعات الصناعة والزراعة والتجارة والسياحة، ولا على شكل العلاقة بين العمال وأرباب العمل، ولا على العلاقة بين الدولة والقطاعات الإنتاجية والخدمية، ولا على قطّاع الصحّة الذي هو بكلّ حقّ خطّ الدفاع الأول في هذه الحرب، ولا على قطّاع التعليم والثقافة والفنون فقط، بل يتعداه إلى دراسة آثار هذه الجائحة على المجتمعات وسلوكيات الأفراد وصحّتهم النفسية وصحّة أطفالهم، وعلى الأسرة والعلاقات بين الأقارب والجيران. حتى إنّ بعض النقاشات تتناول آثار هذه الجائحة على فلسفة قطّاع البناء، حيث يفكّر الكثيرون الآن بشقق سكنية مجهّزة للعمل من المنزل في المستقبل.
يتلقّى الأطفال في ألمانيا – جميع الأطفال وليس فقط الألمان منهم – معونة اسمها “التعويض العائلي للأطفال” أو بالألماني “Das Kindergeld”، وتستمر الحكومة بصرف هذه المعونة لهم حتى أثناء الدراسة الجامعية وإلى أن يبلغ واحدهم سنّ الخامسة والعشرين. وبعد الإغلاق الأول “Lockdown” صرفت الحكومة الاتحاديّة الألمانية مبلغ 300 يورو لكلّ طفل يتلقّى هذا التعويض العائلي، ثمّ قررت صرف مبلغ 200 يورو لكل مستحق في الإغلاق الثالث، ستوزع بدءاً من أول أيار 2021. الهدف من هذه المعونة هو تعويض الأطفال عن الحرمان من عيش حياة طبيعية خلال فترات الإغلاق، فقد عانى هؤلاء من إغلاق المدارس وصالات الرياضة، كما توقّفت النشاطات المدرسية والرحلات التي يشتهر بها الألمان، داخلياً وخارجياً، وقد أثّر هذا بشكل كبير على نفسيات الأهل وعلى نفسيات أولادهم.
بالتأكيد ستخدم هذه المعونة القطاع الاقتصادي، لأنها ستضخّ السيولة في الأسواق التي عانت من الركود الطويل بسبب هذه الإغلاقات. لكنّ المفارقة التي تستدعي الانتباه، هي التبرير المقدّم من الحكومة الاتحادية الألمانية لصرف هذه المعونة أو المنحة، أي تعويض الأطفال وأهاليهم عن المعاناة النفسية والبدنية جرّاء تغيّر ظروف الحياة، علماً أنّ أسباب هذا التغيّر لا تعود لخطأ ارتكبته الحكومة، بل لظرف طارئ وقوّة قاهرة لا أحد مسؤول عنها سوى الطبيعة وقوانينها.
بالمقارنة بين تبريرات حكومة ألمانيا الاتحادية لمنح الأطفال معونة للتعويض عن المعاناة النفسية والبدنية، وبين تبريرات بشار الأسد لحربه على السوريات والسوريين، بما فيهم أطفالهم، أنّهم بيئة حاضنة للإرهاب يستحقّون ما سينزل بهم من عقاب، نجد بوناً شاسعاً من تمايز القيم. الإنسان في ألمانيا قيمة عُليا، وكرامته مقدّسةٌ لا يجوزُ أن يطالها أيّ مسٍّ أو تجاوز، وعلى جميع سلطات الدولة صيانتها ورعايتها، وهذا ما يتجسّد فعلاً على أرض الواقع كل يوم في سلوك أجهزة الدولة المختلفة من تشريعية وتنفيذية وقضائية. بينما الإنسان في سوريا لا قيمة له، بل هو أدنى في التصنيف الأسدي من الكائنات الحيّة العاديّة، فالأسد اعتبر السوريين الثائرين على نظام حكمه تارة جراثيم وتارة إرهابيين، ووفق مفهومه كلاهما واحد، ولا يمكن التعامل معهما إلا بالمبيدات الكيماوية أو بالبراميل المتفجرة. تعوّض الحكومة الألمانية الأطفال عما لحق بهم من ضيق بسبب الدراسة في بيوتهم، بينما يقتلع بشار الأسد وجيشه الباسل بيوت الأطفال السوريين من جذورها ببراميله الغبيّة.
لا شك لدينا بأنّ العنف – بوصفه أسلوب تعامل بين البشر – ليس محصوراً بمنطقة الشرق الأوسط، لكن ما يميّز منطقتنا عن غيرها في العصر الراهن على الأقل، أنّه يشكل الأسلوب الوحيد لتعامل أنظمة الحكم مع السكان، ولا نقول مع المواطنين لأنّ هذه الأنظمة لا تعتبرهم كذلك، فهم رعايا أو حتى ما دون ذلك. وللحقيقة فإنّ هذه المنطقة لم تكن منطقة حروب وصراعات فقط، بل كانت – وعلى فترات تاريخية طويلة – وسوريا منها بالأخص بحدودها الكبرى المتعارف عليها تاريخياً، مهداً للعديد من الديانات السماوية وغير السماوية، وقد تلاقحت فيها قيم التسامح والمحبّة، بدءاً من المقولة المكتوبة على جدران معبد بعل “حطّم سيفك وتناول معولك واتبعني لنزرع السلام والمحبّة في كبد الأرض” وصولاً إلى قوله تعالى في محكم تنزيله: (فبما رحمةٍ من الله لِنت لهم، ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك، فاعفُ عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر) 159 آل عمران.
أمّا المسيحيّة التي يمكن القول بشكل أو بآخر، إنّ جوهرها في شقّها الكاثوليكي على الأخص، يقرأ التاريخ الإنساني بوصفه تكفيراً عن الخطيئة الأولى، أي معصية آدم وحوّاء لتعاليم الله، ومن ثمّ نزولهم من الجنّة إلى الأرض لبداية مشوار الغفران الدنيوي، واعتبار المسيح الفادي المخلّص الذي حمل جزءاً من خطايا البشر على كاهليه، وأنّ الصلب محطّة في طريق الجلجلة ودرب الآلام إلى الخلاص، ولا يتوّج هذا العناء المستمرّ إلا بانتهاء التاريخ وبقيام المسيح من جديد، لينقل البشرية من عالم الفناء إلى عالم الخلود، فإنها كلها – أي هذه القيم الحاضّة على السلام والتسامح – لم تعرف لعقل الديكتاتور حافظ وابنه من بعده طريقاً!!
والحقيقة أنّ السؤال الذي لا ينفكّ يراود المرء عن نفسه، ما الخطيئة التي ارتكبناها كي يكون عقابنا في الدنيا هذه الأسرة المغرقة بالإجرام، وهل فعلاً تستحقّ سوريا أن يجثم الأسد وابنه على صدرها خمسين عاماً فيدمرا ما بنته الأجيال المتعاقبة منذ آلاف السنين؟ فهل كان قدرُ السوريين أنّ جدّهم المسيح لم يحمل من خطاياهم شيئاً، فابتلاهم الله بهذا النظام الهمجي الذي دمّر تاريخهم وحاضرهم ومستقبلهم؟
إنّ الإجابة عن سؤال بهذا الحجم لا يكمن فقط في معرفة أسباب سيادة الاستبداد وسيطرته، بل في قراءة أسباب غياب التضامن الإنساني بين البشر، وكما غابت عنّا ملامح الفلسطينيين واللبنانيين والصوماليين والعراقيين وغيرهم من شعوب المنطقة العربية التي لجأ أهلها إلينا عبر سنوات القرن الماضي، غابت ملامحنا أيضاً عن أبصار الآخرين. لم نكن قبلاً على قدر المسؤولية الأخلاقية في تعاملنا مع هؤلاء لنطلب منهم ومن غيرهم أن يتعاملوا مع مأساتنا بأفضل مما نلقاه الآن. ويبدو أنّ تأثير وباء كورونا الهائل، الذي غيّر قيم التضامن بين البشر من التقارب والتزاور إلى التباعد والانقطاع، لم يكن سبّاقاً في هذا المضمار، فالأسد وابنه – كما كلّ الحكام الديكتاتوريين في العالم – جعلا من التضامن جريمة ومن التسامح خطيئة، ونتحمّل نحن أيضاً بعضاً من المسؤولية، كلّ حسب موقعه وحجمه. إنه صراع البقاء مع الجائحة وصراع الكرامة مع الأسد، وستنتصر إرادة الحياة بتضامن البشر رغم التباعد، كما ستنتصر السوريات والسوريون بمواجهة مجرم الحرب عدو الإنسانية رغم التعب.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت