حتى ساعة كتابة هذه السطور، لم ينعكس تأثير انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية، إلى مستوىً قياسي غير مسبوق، وما يرافقها من أزمة بنزين لدى الجار اللبناني، على سعر صرف الليرة السورية. وذلك يخالف حالة ارتباط طردية جمعت بين العملتين في معظم الخضّات على مدار سنة ونصف سنة على الأقل، منذ احتجاجات تشرين الأول/أكتوبر 2019، في لبنان. فكان كل انهيار لليرة اللبنانية يُترجم طلباً أكبر على الدولار، وينعكس سلباً على الليرة السورية، في سوقَي صرف متداخلين للغاية.
لكن ذلك لم يحدث حتى الآن، في أزمة العملة اللبنانية الأخيرة. وهو ما يحمل تفسيرات يمكن أن تحدد المدى الزمني المرتقب للاستقرار النسبي الذي تعيشه الليرة السورية منذ نهاية نيسان/أبريل الفائت. بكلمات أخرى: متى سنشهد تراجعاً نوعياً جديداً لليرة السورية؟
بدايةً، لا بد من الإقرار بأن الإدارة النقدية التابعة للنظام نجحت في عزل سوق الصرف السورية، بصورة نسبية، عن نظيرتها اللبنانية، التي لم تعد ملاذ التجار السوريين الباحثين عن الدولار بغية الاستيراد. وتحقق ذلك عبر إجراءات من شقين: الأولى تتعلق باستعادة “دولار الحوالات” ليمر مجدداً عبر قنوات مرتبطة بالمصرف المركزي، بعد أن ضاعف الأخير السعر الرسمي لـ “دولار الحوالات” إلى الضعف (2500 ليرة للدولار)، وسمح لشركات الصرافة بشراء “دولار الحوالات” من أصحابها، بسعر أعلى من ذلك (بوسطي 2825 ليرة للدولار). ورغم أن السعر الأخير أقل من السعر الرائج في السوق (بوسطي 3200 ليرة للدولار)، إلا أنه يبقى مناسباً للكثير من مُتلقي الحوالات بالداخل، مقارنة باللجوء لسماسرة السوق السوداء. وهو ما عاد على المركزي بحصيلة وفيرة من الدولارات، عكسها على تمويل المستوردات، بالسعر الرسمي (2525 ليرة للدولار)، عبر المصارف العاملة في البلاد، بعمولة لا تتجاوز 10%. لكن المركزي لم يكن كريماً مع التجار، وحصر تمويل الاستيراد، بالسلع الأساسية فقط. ورغم ذلك، فقد خفف هذا الإجراء من حاجة التجار إلى السوق السوداء لتمويل صفقات استيرادهم بالدولار. وانعكس استقراراً في سعر الصرف.
أما الشق الثاني من الإجراءات، فتمثّل في سياسة “تجفيف” الليرة السورية من السوق، لخلق حاجة دائمة لها، وبالتالي طلباً دائماً عليها، يجهض مساعي المضاربين على العملة في السوق السوداء من جهة، ويقلل الطلب على الدولار من جهة ثانية. وأصدرت حكومة النظام في سبيل ذلك، سلسلة قرارات وتعميمات، منها تحديد سقف السحب اليومي من المصارف بمليوني ليرة سورية فقط (ما يعادل 628 دولار)، ومنع نقل أكثر من 5 ملايين ليرة سورية (1572 دولار) بين المحافظات، وفرض سقف لا يتجاوز مليون ليرة سورية (314 دولار) للتحويلات داخل مناطق سيطرة النظام.
وأدى الشق الثاني من الإجراءات – تجفيف الليرة في السوق- إلى ركود في الحركة الاقتصادية، وجاء قانون البيوع العقارية الذي أقره النظام قبل أسابيع، ليزيد الطين بلّة، إذ منع توثيق عمليات بيع السيارات والعقارات، إلا بشروط من أهمها، أن تتم عملية البيع عبر الحسابات المصرفية، ما يعني أن من يبيع شقة متواضعة بقيمة 100 مليون ليرة سورية مثلاً، سيحتاج إلى 50 يوم عمل رسمي كي يسحب ثمنها من البنك. وهو ما انعكس انهياراً في عدد عمليات البيع العقاري بنسبة تقترب من 90%، وما رافقه من ركود في هذا السوق الحيوي، وما يرتبط به من نشاط عمراني، ومهنٍ ذات صلة.
وإن كان الشق الأول من الإجراءات – رفع سعر “دولار الحوالات” وتمويل المستوردات- قد ساهم في الحد من دائرة التضخم الذي كاد يصبح “مفرطاً”، فقد ساهم الشق الثاني في ركود اقتصادي، قد يؤدي إن استمر طويلاً إلى عَكسِ نتيجة إجراءات الشق الأول.
لكن النظام لا يبدو مهتماً للمخاوف من فترة ركود طويلة نسبياً قد تلم بالاقتصاد. ما يهمه ضبط سعر الصرف، وما يتبعه من ضبطٍ للتضخم. لكن المدى الزمني لقدرته على تنفيذ ذلك، يبقى محدوداً. فاستمرار الركود قد يهدد بالكساد، وهو ما لا يرغبه النظام، لذا سيضطر قريباً إلى التخفيف من سياسات “تجفيف الليرة” في السوق. وهو ما سيفتح مجدداً ثغرة أمام المضاربين على العملة في الأسواق، ليُنهوا حالة الاستقرار النسبي لليرة. بكلمات أخرى، فإن عودة المضاربات على الليرة قد تكون قريبة، وفي أبعد الحدود، بعد نهاية فصل الصيف، وبدء موسم الخريف، حينما تنطلق مواسم من النشاط الاقتصادي (بدء المدارس وشراء مستلزماتها، المونة المنزلية، والحاجة لتمويل استيراد المحروقات والقمح..)، بصورة ستضطر النظام إلى الإفراج عن كميات كبيرة من الليرة السورية، أو أنه سيخاطر بإجهاض النشاط الاقتصادي في هذه المواسم.
وبالتوازي مع ما سبق، ورغم سياسة ترشيد الاستيراد إلى حدوده الدنيا، التي اعتمدها النظام، رفع تجار دمشق صوتهم عالياً، عبر أحد ممثليهم، الذي قال عبر صحيفة “الوطن” الموالية، إن هناك “مشكلة حقيقية” لا يزال التجار يواجهونها في توفير القطع الأجنبي، وذلك رغم أن حركة الاستيراد متوقفة تقريباً خلال الفترة الحالية.
وهنا، يُطرح تساؤل ملح: ماذا سيحدث حينما يبدأ موسم استيراد المحروقات، وبالذات، مازوت التدفئة؟ وكيف سينعكس ذلك على سعر صرف الليرة السورية؟ إذ لطالما ارتبطت خضّات سعر صرف الليرة السورية بحركة الطلب على الدولار مع ارتفاع وتيرة الاستيراد. وتشكل المحروقات، إلى جانب القمح، أكثر المستوردات إلحاحاً التي لا يستطيع النظام المناورة حيالها كثيراً.
وسواء اعتمد النظام مع بدء موسم الخريف القادم، السياسة التي سبق أن اعتمدها عام 2019، حين سمح للتجار والصناعيين باستيراد المحروقات، أو لجأ إلى سياسته التي اعتمدها في العام الفائت والحالي، وهي أن يتولى بنفسه استيراد هذه السلعة الحيوية، فإنه سيكون بحاجة لكميات كبيرة من الدولار.
ويكفي أن نحيل القارئ إلى تصريحات رئيس وزراء النظام، حسين عرنوس، في نيسان/أبريل الفائت، والتي أقرّ فيها بأن فاتورة مستوردات سوريا من المشتقات النفطية والغاز، خلال ستة أشهر، وصلت إلى 1.6 مليار دولار أمريكي. رغم أن جزءً كبيراً من هذه المشتقات، استوردها النظام من الحليف الإيراني.
وحتى لو توقعنا استمرار هدوء جبهة العقوبات الأمريكية، بموجب قانون “قيصر”، في الفترة القادمة، كما توحي بذلك مؤشرات عديدة، فإن ذلك قد يمنح الليرة السورية هامشاً من الاستقرار النسبي المرتقب، خلال فصل الصيف كحد أقصى، سرعان ما سينتهي، على الأرجح، مع بدء شهر أيلول/سبتمبر، حين سيبدأ النظام سباقه المتجدد مع الوقت لاستيراد المشتقات النفطية والغاز والقمح، للحد من أزمات المحروقات والخبز، والتي تتصاعد مع كل خريف لتصل ذروتها في الربيع، قبل أن تهدأ وتيرتها خلال أشهر الصيف، من كل عام.
لذا يمكن أن نقول للمهتمين في أسواق العملة بسوريا، قد يكون الصيف هادئاً بالنسبة لليرة السورية، لكن، للخريف معادلاته المختلفة.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت