شهدت سورية موجة تصعيد ميدانية خلفت العديد من الضحايا، لتكشف وبما لا يدعو للشك، أن خفض الاستقرار القائم هش ومجرد وهم، وأن فرص تجدد الموجهات العسكرية ما تزال حاضرة بقوة، كما أن البعض يرى بالحرب ضرورة للبقاء.
مع استمرار المعضلة الأمنية لتركيا على حدودها الجنوبية مع سورية، وفشل التفاهمات الثنائية مع الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا في لجم قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، وتعثر مسار التطبيع مع النظام السوري، تجد أنقرة نفسها مضطرة للعمل منفردة بما يلزم لردع التهديدات الأمنية التي تواجهها، ذلك ما يجعل منطقة شمال شرق سورية والحدود عرضة بشكل مستمر للتصعيد العسكري.
شنت أنقرة سلسلة من الهجمات الجوية المركزة، على أهداف متنوعة تقع في مناطق سيطرة ما يعرف بالإدارة الذاتية، وذلك رداً على تفجير أنقرة الذي تبناه حزب العمال الكردستاني، مع تأكيد المسؤولين الأتراك بقدوم منفذي العملية من سورية.
تلقي هذه الحادثة الضوء على استمرار المعضلة الأمنية التي تعاني منها تركيا في سورية، فالحدود سائبة ومن الصعب ضبطها كما تظهر عمليات التسلل والنزوح المستمرة، تلك التي تتحكم بها شبكات فساد أطرافها متنفذون على طرفي الحدود..
كذلك سيطرة تشكيل تصنفه تركيا على أنه إرهابي على جانب الحدود مع تركيا، يتم اتخاذها قاعدة للتمويل والتدريب في ظل حماية أمريكية لقسد بحجة قتال “تنظيم الدولة الإسلامية”..
حاولت أنقرة معالجة معضلتها الأمنية وضبط أمن حدودها من خلال الإنخراط في مقاربة أمنية تعاونية، تبين أنها غير ناجعة كما ينبغي، فلا التفاهمات الثنائية مع روسيا والولايات المتحدة الأمريكية أتت أكلها، ولا يبدو بأن الإنخراط في مسار التطبيع مع النظام السوري ذا مغزى، في ظل تفلت أوراق القوة من يد النظام السوري وعجزه عن الوفاء بأي التزامات، وفي الجنوب السوري عبرة لمن اعتبر، ولا وجود الجيش التركي في سورية واعتماده على فصائل المعارضة السورية أجهض التهديدات الأمنية، في ظل غياب منظومة حوكمة أمنية، وانتشار الفساد داخل الفصائل وتغليبها مصلحتها على مصلحة المنطقة. ما سبق وفي ظل الانشغال الروسي والأمريكي وعدم جدية النظام السوري، دفع أنقرة للتحرك منفردة للتعامل مع معضلتها الأمنية عبر شن سلسلة من الهجمات الجوية المكثفة، بما يحمله ذلك من مخاطر الاحتكاك السلبي مع الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا اللتان تحرصا على الحفاظ على مناطق النفوذ دونما تغيرات جوهرية، كذلك إعادة تشكيل المشهد الميداني في منطقة شمال شرق سوريا، في ظل إمكانية قسد التلاعب بملف معتقلي تنظيم “الدولة الإسلامية”.
على الجانب الآخر، شنت قوات النظام السوري مدعومة بحلفائها حملة انتقامية عشوائية على منطقة إدلب، أسفرت على وفاة العديد من المدنيين وتدمير بنى تحتية، رداً على استهداف الكلية الحربية في حمص، وما نجم عنه من مقتل عدد كبير من ضباط النظام وذويهم، حيث تم توجيه أصابع الاتهام إلى كل من أنصار التوحيد والحزب الإسلامي التركتساني، وتحميلهم المسؤولية عن هذا الاستهداف.
يتوجب وضع هذا التصعيد في سياقه، كان لافتاً حديث الأسد للتلفزيون الصيني خلال زيارته للصين بأن الحرب لم تنته بعد، رغم ثبات خطوط الجبهات منذ أكثر من ثلاث سنوات، وكأنما الأسد يرى بالحرب ضرورة للبقاء، إذ أنها تتيح له أوراق قوة تفاوضية من خلال نسج تفاهمات أمنية مع آخرين، كما أنها ورقة للهروب من استحقاقات مرحلة ما بعد الصراع.
يتقاطع ما سبق مع تحميل آلة النظام الإعلامية الحزب الإسلامي التركستاني “الإيغور” المسؤولية عن هجوم الكلية الحربية، وما يعنيه ذلك من مصلحة مشتركة للنظام والصين في التعاطي مع هذا التهديد عبر شن حملات عسكرية وأمنية. أيضاً، يأتي استحضار استمرارية حالة الحرب كمبرر للتهرب من استحقاقات ما بعد الصراع التنموية والاقتصادية، فكل شيء مؤجل لحين انتهاء الحرب، وما يعطيه ذلك من حجة لإسكات الأصوات المنادية بالخدمات والمعيشة، فلا صوت يعلو فوق صوت الحرب، في رد على حراك السويداء، وعلى أي تململ في قاعدته الموالية، بل أن الدم المسال في الكلية الحربية يعطيه القدرة على إعادة تنشيط مشاعر الخوف والغضب لدى مواليه، وتوظيفها في آلة القتل العشوائية المستمرة منذ عام 2011.
لا يبدو بأن قدر سورية هو الاستقرار بعد، وجغرافية مناطق النفوذ ما هي إلا وهم قابل للتصدع والإنهيار في ظل التهرب من معالجة الاستحقاقات الرئيسية للصراع السوري، ويبدو بأن الحرب ما تزال الاستثمار المفضل سيما لدى النظام، وما يحمله ذلك من مخاطر تلاشي سورية دولة ومجتمعاً، وعندئذ لن يكون هنالك للحرب من مغزى.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت