طردٌ أم “ضبط إيقاع”؟..مآلات النفوذ الإيراني وتباين استراتيجية “حلفاء الأسد”
تصريحٌ لافت في ظرفٍ “حساس” فتح باب التحليلات، وأعطى صورةً عن مشهد جديد تقبل عليه سورية؛ وعلى نحو أدق الوجود الإيراني فيها، فما بين الإعلان الإسرائيلي عن بدء مرحلة طرد إيران من سورية بشكل كامل، وما تلاها من ضربات وصفت بـ”الأعنف”، وصولاً إلى التحركات الأمريكية، الميدانية أو السياسية منها، طُرحت عدة تساؤلات عن المرحلة المقبلة التي تنتظر نفوذ طهران في سورية، وفيما إذا اتخذَ بالفعل قرار طردها من الأراضي السورية نهائياً، خاصة في السياق الحالي؛ المُشتعلِ بخلافات “العائلة والطائفة” الحاكمة في سورية، وتوجهِ الدول الكبرى المعنية، بإنضاجِ مسارِ حلٍ سياسيٍ تبدو ملامحه أكثر جدية الآن من ذي قبل، مع وصول مرحلة العمليات العسكرية لنهايتها.
من التحالف للارتماء
لعبت إيران دوراً فاعلاً في سورية، منذ مطلع أحداث الثورة السورية، بوقوفها ودعمها لنظام الأسد عسكرياً، خاصةً أنها كانت الدولة الأولى التي تزج بقوات عسكرية وميليشيات للقتال إلى جانب بشار الأسد، في مسعى للحفاظ على تظامه من الانهيار، ولم تتوقف عند ذلك بل تغلغلت اقتصادياً واجتماعاً وسياسياً، من خلال دخولها كطرف أساسي في المحادثات السياسية التي شهدها الملف السوري، ولاسيما محادثات “أستانة”، التي ماتزال قائمة حتى الآن.
وإلى ما قبل أحداث الثورة السورية كان حاضراً “التحالف الاستراتيجي” بين طهران والأسد الأب بشكل كبير وواضح، ليرثه الابن فيما بعد، والذي بدا أكثر إرتماءاً بحضن طهران، و يقف حالياً أمام “مفترق طرق” من هذا التحالف، مع إصرار المجتمع الدولي بإبعاد إيران عن أي مستقبل لسورية، واعتبارها “عقبة رئيسية” أمام الحل.
في الأيام الماضية، طُرحت عدة سيناريوهات عن مصير الوجود الإيراني في سورية، وبينما ذهب مراقبون إلى أن مرحلة إنهاءه قد بدأت، اتجه البعض إلى اعتبار أن طرد إيران من سورية لن يكون بالأمر السهل، لكونها حاضرة على كافة الأصعدة، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وثقافياً، ومجتمعياً كذلك.
بموازاة ذلك، ومع السيناريوهات المطروحة، فُرضت عدة وقائع على الأرض، لم تعطي مساراً واضحاً، بل شكّلت ضبابية في المشهد العام لسورية، من شرقها إلى غربها؛ إذ بينما دار الحديث عن بدء بعض الميليشيات الإيرانية في المنطقة الشرقية بالانسحاب، وتسليم مواقعها للقوات الروسية، بعد الضربات العنيفة التي تعرضت لها مواقعها، ذكرت مصادر غربية وإسرائيلية، أن إيران تتجه حالياً إلى إعادة التموضع، للتكيّف مع التصعيد الأمريكي الإسرائيلي.
ويحاول هذا الملف، استشراف مصير الوجود الإيراني في سورية، ومناقشة “استراتيجية محاربة إيران”، التي تعمل إسرائيل وأمريكا عليها، والدور الذي يلعبه الروس في ذلك، وبحث جدية النوايا التي أطلقتها تل أبيب، حول عزمها طرد إيران قبل بداية عام 2021، أي بعد سبعة أشهر من الآن.
تصعيد إسرائيلي- أمريكي بالتزامن
قبل البدء باستشراف ومناقشة مصير الوجود الإيراني في سورية، لا بد من الإشارة إلى جملة من التحركات، كانت بمجملها تصعيدية، من جانب أمريكا وإسرائيل، وشهدتها الأيام الماضية، بصورة متزامنة.
في 28 أبريل/نيسان 2019، أطل وزير الدفاع الإسرائيلي، نفتالي بينيت، بتصريح لافت، إذ تحدث لصحفيين في إذاعة “إف إم 103” رداً على سؤاله عن استمرارية الضربات الجوية في سورية، وقال بينيت: “أجعلوا آذانكم مفتوحة.. سوف تسمعون وترون بأعينكم.. سنستمر بضرب إيران وانتقلنا من مرحلة إيقاف التموضع في سورية بشكل واضح وجذري إلى أن نخرجها بشكل كامل”.
وأضاف بينيت: “الجيش عندنا، جنباً إلى جنب مع نشاطه في مكافحة (كورونا)، لا ينام ولا يهدأ، بل ينفذ عمليات أضخم بكثير من الماضي وبوتيرة أعلى بكثير من الماضي. وهو يحقق النجاحات في ذلك”.
ورغم أن الوزير ذاته، كان قد تحدث بنفس النبرة تقريباً قبل شهرين، لكن لم تمض ساعات على التصريح الأخير، حتى تعرضت مواقع عسكرية لنظام الأسد في كل من حلب ودير الزور لضربات إسرائيلية “عنيفة”، استهدفت مواقع عسكرية لميليشيات إيرانية، وكان قد سبقها في الأيام الماضية، ضربات على مواقع عسكرية في حمص ودرعا ومحيط دمشق قرب منطقة السيدة زينب.
وعلى نحو لافت أيضاً، وبعد أيام من تصعيد الضربات الإسرائيلية على مواقع إيران في سورية، صعّد وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، لهجته ضد الوجود الإيراني، وأعرب عن أمله في اتخاذ طهران قراراً “ذكياً” والخروج من سورية؛ قائلاً إن أمريكا وإسرائيل أوضحتا لنظام الأسد والنظام الإيراني، ضرورة مغادرة سورية.
وأضاف بومبيو أن أمريكا عملت على سياسة ممارسة أقصى الضغوط، وكانت فعالة، وساعدت في “منع النظام الإيراني من امتلاك الموارد لمواصلة الإرهاب في جميع أنحاء العالم”، بحسب تعبيره، مشيراً “لقد قلنا لروسيا ولنظام الأسد، إن على الإيرانيين الرحيل. وعلى إيران الاهتمام بشعبها داخل حدودها”.
ما سبق اُعتبر مؤشراً على تحوّل في الاستراتيجية الأمريكية الإسرائيلية، حيال الوجود الإيراني في سورية؛ وعلى الجانب المقابل لم يصدر أي تعليق من جانب طهران عما شهدته الأيام الماضية من تحركات ضدها، فيما تلخص ردها برسالة خرج بها الأمين العام لـ”حزب الله” اللبناني، حسن نصر الله، قال فيها إن مطلب انسحاب المستشارين العسكريين الإيرانيين من سورية لن يتحقق، مشيراً إلى أن معركة “حزب الله” وإيران في سورية “واضحة الأهداف”.
ومنذ مطلع أحداث الثورة السورية في 2011، أصرت إيران على رواية وحيدة، نفت فيها وجود قوات وميليشيات تتبع لها في سورية، وقالت إن وجودها يقتصر على بعض المستشارين، وجاء بطلب من “الحكومة السورية”.
“حرب ردعية”
يرى الباحث في مركز “الشرق للدراسات”، سعد الشارع، أن لإسرائيل أسباب كثيرة في زيادة قصفها واستهدافها للمواقع الإيرانية في سورية، خلال الفترة الأخيرة.
ويقول في حديث لـ”السورية.نت” إنه يجب الوقوف على عدة نقاط، أبرزها أن الاستراتيجية الأمريكية ككل، والتي تعتبر إسرائيل جزء منها حالياً، لا تتضمن إخراج إيران من الجغرافية السورية، مضيفاً أن أمريكا ومعها إسرائيل، اعتمدت على ثلاثة محددات أساسية في تعاملها مع إيران داخل سورية، أولها: العقوبات الاقتصادية، حيث لا تريد أمريكا من إيران أن تستفيد من وجودها في سورية، بالالتفاف على هذه العقوبات.
أما المحدد الثاني، بحسب الشارع، فهو الضغط الدبلوماسي بشكل عام الذي تطبقه أمريكا على إيران، بينما يتلخص المحدد الثالث بما يفعله الطيران الإسرائيلي.
ويعتقد الباحث، أن جميع التصريحات، حتى إن كانت من مستويات عليا إسرائيلية حول إخراج إيران قبل عام 2020 وبعض التصريحات التي كانت ربما قاسية “لا تنطبق تماماً مع الوقائع”.
ويشير إلى أن إيران الآن تنتشر على معظم الجغرافية السورية، ولديها أكثر من 70 إلى 80 ألف عنصر من ميليشيات إيرانية أو غير إيرانية، وأصبح لديها توغل في المجتمع السوري سواء على السياقات الدينية أو المجتمعية، إلى جانب وصولها إلى مؤسسات النظام، واستقطابها لعدة شخصيات من هذه المؤسسات.
ضبط الإيقاع
وإذا كان معلوماً، أن إيران (خاصة بعد 1979)، اتجهت نحو “تصدير الثورة”، وبالتالي التمدد في الإقليم، فإن الأرض الخصبة لذلك، تتطلب دولاً مترهلة، تُتيح هامشاً كبيراً لنمو قوة الميليشيات، فإن طهران طبّقت ذلك بدقة في سورية؛ إذ استغلت هشاشة “الدولة” وحالة عدم الاستقرار الذي شهدته البلاد في الأيام الأولى للثورة السورية، وأنشأت عشرات القواعد العسكرية، وفيما بعد كثّفت بشكل تدريجي، التغلغل في مختلف القطاعات السورية، منها الاقتصادية والحيوية، إلى جانب لعبها على الوتر الاجتماعي، مستغلةً بذلك الحالة العامة التي دخلت بها سورية، والتي فرضتها العمليات العسكرية في عدة مناطق.
بناءً عليه، يقول الباحث السوري سعد الشارع، إن إيران لا يمكن إخراجها بضغط سياسي ودبلوماسي وعقوبات اقتصادية وقصف جوي “حتى لو كان يستهدف أماكن حساسة لديها في سورية”.
ويضيف: “نرى أن خريطة القصف كانت تستهدف الأماكن في جنوب سورية، ثم توسعت إلى محيط دمشق وفي المنطقة الجنوبية من دمشق، ثم استكملت وأصبحت تقصف مناطق في وسط سورية في تدمر والبادية، والآن التطور الجديد عندما قصفت موقع في حلب في منطقة الراموسة”.
ورغم توسع عمليات القصف، يشير الباحث إلى أن ذلك “لن يخرج إيران”، مُعتبراً أن “ما تريده إسرائيل وأمريكا هو ضبط الموقف الإيراني داخل سورية، وليس عملية إخراج إيران، لأن من يريد إخراجها يحتاج إلى قوات على الأرض، وعمليات برية، ولا يكتفي فقط بالقصف الجوي”.
وبحسب الباحث، فإن السياسة المتبعة عسكرياً من قبل إسرائيل وحتى الولايات المتحدة الأمريكية يُمكن تسميتها بـ”الحرب الردعية”، إذ يريدان أن يردعا إيران أكثر، وأن يحجماها أكثر من عملية إخراجها “لأن إسرائيل وأمريكا وحتى بعض القوى الدولية تدرك أن تكلفة إخراج إيران من سورية ستكون باهظة جداً (…) يحتاج الأمر إلى عمليات ميدانية، وفي الوقت الحالي لا اعتقد أن المؤشرات تعطي أو تشير إلى ذلك”.
هل يوجد استراتيجية حقيقية لطرد إيران من سورية؟
بحسب الواقع الميداني لسورية، وبناء على ما فرضته السنوات التسع الماضية، لم تتضح حتى الآن استراتيجية محاربة إيران في سورية، سواء من قبل إسرائيل أو أمريكا، ولاسيما أن الأخيرة شهدت عدة متغيرات في طريقة تعاملها مع الملف السوري، إما سياسياً أوعسكرياً، حيث تنتشر قواتها في الشمال الشرقي لسورية.
لكن ورغم ما سبق، شكّلت الضربة التي وجهتها أمريكا لإيران في العراق، بقتل قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الإيراني، قاسم سليماني، مرحلة جديدة، اتفق الباحثون والمحللون بأن ما قبلها لن يكون كما بعدها، على ساحات سورية والعراق ولبنان.
الباحث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، معن الطلاع، يرى أن الاستراتيجية الأمريكية تمركزت عملياً بعد إعلان انتهاء تنظيم “الدولة الإسلامية” على محاصرة إيران، مشيراً إلى أن “هذا العامل هو عامل واضح في سياسية واستراتيجية ترامب، وأفرز عدة ضربات للتموضع الإيراني في سورية، سواء في الجبهة الجنوبية أو حتى البادية أو مناطق شرق الفرات التي كانت إيران تستثمر فيها كثيراً”.
ويقول الطلاع لـ”السورية.نت”: “لا يمكن فهم هذه التحركات بأنها ضمن خطة متكاملة، بقدر ما هي إعلان عام للتوجه ضد إيران، لان هذا الأمر يتطلب استراتيجية حقيقة لا تفصل البعد السياسي عن البعد الأمني والعسكري”.
وبحسب الباحث، فإن الوضع السابق “بات محصوراً فقط في السماح لإسرائيل بضرب تحركات إيران في المشهد السوري، والذي باتت إيران فيه جزءاً حيوياً، ومنخرطة في بنية نظام الأسد، وبدأت اليوم بالتغلغل في بنية بعض المجتمعات السورية”.
ولا يمكن فصل استراتيجية أمريكا اتجاه إيران في سورية عن استراتجيتها بالتعامل مع إيران بشكل عام، بحسب الباحث الذي يشير إلى أنها “مجموعة من الخطوات التي تضغط على إيران لجرها إلى مساحات تفاوض، غير التي كانت موجودة إبان التفاوض على الملف النووي في عهد أوباما”.
ويضيف: “بالتالي الاستراتيجية قائمة على خطوات لا ينفصل البعد الاقتصادي عنها وسلاح العقوبات (…) التموضع النوعي الأمريكي في الجغرافيا السورية والعراقية هو جزء منه لرصد تحركات إيران”.
خطوة بخطوة
في سياق ما سبق، وضمن الحديث عن الاستراتيجية التي تعمل عليها أمريكا بخصوص إيران، يشير الطلاع إلى أن الاستراتيجية التي تعمل عليها واشنطن، يمكن إطلاق عليها تسمية “استراتيجية الخطوة بخطوة”.
ويقول الطلاع، إن هذه الاستراتيجية جاءت كون إيران قادرة على تغيير تموضعها وجعله أكثر نوعية في الجغرافية السورية، سواء بشكل مباشر عبر امتلاكها القواعد المرنة في سورية، أو غير مباشر عبر حلفائها المحليين، من الأوساط السياسية و”حزب الله” و”حزب البعث” أو حتى في بنية الجيش، التي باتت جزءاً رئيسياً من القوات المدعومة إيرانياً.
ويشير الباحث السوري إلى بعدين يرتبطان بالاستراتيجية الأمريكية حول التعاطي مع إيران، الأول هو أن “هذه الاستراتيجية قد تأتي أكلها عبر الضغط المستمر والمحاصرة، وحتى تنحية البعد الأمني”.
أما البعد الآخر، بحسب الباحث “فهناك من يرى أن هذه التحركات، إذا لم تستهدف النظام بشكل أكبر، وهنا لا يمكن إغفال البعد الأمني والعسكري، فإن أي استراتيجية في هذا الصدد ستكون إيران قادرة على الالتفاف حولها، سواء بقبعة النظام أو حلفائها المحليين في سورية”.
وكان لافتاً في الأيام الماضية عدة تحركات أمريكية على الأرض في سورية، كانت مجملها في سياق العمل ضد الوجود الإيراني في سورية، وجاءت بالتزامن مع تصريحات وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو حول ضرورة خروج إيران من سورية بشكل فوري.
ولعل أبرز التحركات هي التي شهدتها قاعدة التنف، الواقعة على المثلث الحدودي (سورية، العراق، الأردن)، إذ أنه وحسب مصادر “السورية.نت” فإن القوات الأمريكية عقدت مؤخراً، اجتماعاً بين فصيل “جيش مغاوير الثورة” وممثلين عن “قوات سوريا الديمقراطية”، من أجل وضع خطة عمل عسكرية لطرد الميليشيات الإيرانية من مناطق تمركزها في دير الزور ومحيطها.
وحسب المصادر، فإن الخطة ماتزال “قيد الدراسة” حتى الآن، ولم تتضح نية أمريكا بشأن تطبيقها، سواء على المدى القريب أو المتوسط.
خيارات الحليف..”توأم سيامي”؟
مع ما سبق وبالانتقال إلى الخيارات التي تمسك بها إيران، في ظل الظروف الحالية، والتي من شأنها أن تكون داعماً لوجودها العسكري والاقتصادي في سورية، فمن الواضح أنها كثيرة وتحاول طهران المناورة بها، وهو ما بدأ بشكل غير مباشر، على لسان الأمين العام لحزب الله اللبناني، حسن نصر، إلى جانب التحركات التي شهدتها القواعد الإيرانية في المنطقة الشرقية لسورية، على مدار الأسبوعين الماضيين.
ويوضح الباحث معن الطلاع، أن إيران من أكبر البلدان التي استثمرت وراهنت على “الحل الصفري”، وساندت نظام الأسد منذ البدايات، سواء المساندة السياسة أو حتى في قمع الحراك الثوري، ثم دعمه بمليشيات محلية ومستشارين إيرانيين وقوى إيرانية وأفغانية وأجنبية بالعموم، بالإضافة إلى المساندة الكيبيرة من “حزب الله”.
ويقول: “إيران ترى أنه لا جدوى من الاستثمار، طالما أن الجميع اتفق على محاصرتها، لذلك ستقاوم مقاومة شديدة، وستضغط بربط مصير نظام الأسد بمصيرها، كونها خزانه الأمني والاقتصادي، وهي قادرة على أن تضغط عليه بمستويات اجتماعية وأمنية وعسكرية”.
إيران ستقاوم وبشدة، بحسب الباحث الذي يشير إلى أنه لا يمكن توصيف التموضع الإيراني في 2013 كما هو عليه الآن، إذ مر بتحولين رئيسين، الأول عندما فشلت هذه الميليشيات إلى جانب النظام في إنهاء الصراع، الأمر الذي استوجب تدخلاً روسياً انكفأت فيه القوة الإيرانية وأصبحت في المقعد الخلفي.
أما التحول الثاني فهو مسار “أستانة”، الذي ضمها (إيران) في البداية، لكنه تمايز عنه مسار “سوتشي” الذي يجمع الروس والأتراك فقط، ولاسيما أن هذه المنصة باتت تنظّم اتفاقات غربي الفرات، وبالتالي أصبح التموضع الإيراني في شرق الفرات ضعيف جداً.
ويتفق الباحث عبد الرحمن الحاج مع ما قاله الطلاع، ويرى أن طرد إيران من سورية سيكون أمراً “صعباً”.
ولم يستبعد الحاج في حديثه لـ”السورية.نت”، وجود إمكانية لإخراج إيران من سورية عسكرياً، لكنه يشير إلى أن إيران ليست موجودة عسكرياً فقط، بل تعمل منذ 2016 على ترسيخ وجودها اجتماعياً واقتصادياً، وتنشط على مستوى التعليم، و الخدمات الاجتماعية عبر منظمات “إنسانية”، كما تتغلغل في أجهزة الدولة والمؤسسات الحكومية والأجهزة الأمنية والجيش.
ورغم ما سبق يوضح الحاج أن إخراج إيران من سورية ليس مستحيلاً، لكنه يحتاج جهداً موسعاً وعملاً على مختلف المستويات، قائلاً:”لا شك أن إخراج الميليشيات يمثل خطوة ومرحلة أساسية ولكنها ليست كافية، فإيران تشكل ميليشيات محلية تابعة لها خارج نفوذ النظام وتحصل ميليشياتها على الجنسية السورية (…) تريد أن تنفذ نموذج حزب الله في سوريا، ولهذا ضرب وجودها العسكري أمر أساسي”.
مفتاح سياسي..وتفكيك
من جانب آخر، وبعد الحديث عن إمكانية خروج إيران عسكرياً من سورية، وبحث الخيارات الأمريكية والإسرائيلية لتحقيق ذلك، لا بد من التركيز على نقطة أساسية، لا يمكن فصلها عن أية محاولات لطرد إيران في سورية.
إذ يقول عبد الرحمن الحاج، إن مفتاح إخراج إيران من سورية ليس الضربات العسكرية فقط، بل هو إنهاء نظام الأسد، والدخول في تحول سياسي، مضيفاً أن إيران تملك نفوذاً على بشار الأسد، والذي يدرك أن لا أحد يريد بقائه مهما كلف الثمن سواها.
وتعتبر إيران جزء من “الجيش السوري” في سورية، وتمتلك عقوداً طويلة المدى وتمتلك مؤسسات نشطة، كما لديها اتفاقيات في مختلف المجالات، أبرزها اتفاقية الإشراف على المنهاج السوري وطباعته.
وفي الاقتصاد، تحاول طهران الاستيلاء على قطاعات حيوية، لها علاقة بحياة الناس المباشرة، مثل الاتصالات والكهرباء والمياه والخدمات الحكومية الإلكترونية، وعلى النفط ومشتقاته وتصنيع السيارات، وإعادة الإعمار.
ويوضح الباحث عبد الرحمن الحاج أن إيران “ربطت النظام بالعديد من العقود من جهة، وسيطرت على قراره من جهة ثانية، واخترقت المؤسسات الحكومية من جهة ثالثة، وأنشئت قاعدة اجتماعية عبر عمليات التجنيس والنشاطات المدنية والتجنيد في الميليشيات التابعة لها بإغراء المال والنفوذ الحكومي”.
ويعتبر أن “اقتلاع إيران من سورية يحتاج إلى خطة واسعة والإمساك بشبكتها كاملة وتفكيكك جميع خطواتها واحدة تلو الأخرى (…) هذا ممكن في الوقت الحالي، لكن كل يوم سوف يكون أصعب من قبله”.
مناورة اقتصادية وإعادة تموضع
الشبكة الإيرانية في سورية والتي تحدث عنها الحاج، كان لافتاً في الأيام الماضية ظهور إحدى خيوطها، إذ أنه ومع الضربات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية في سورية، ووسط الحديث عن بدء مرحلة طرد إيران من سورية، اتجهت الأخيرة لإبرام عقد نفطي مع نظام الأسد، وكأن شيئاً لم يكن.
العقد النفطي اعتبر مناورة من جانب إيران في سورية، ولاسيما أن الإعلان عنه جاء في وقت حساس، وفي منطقة تعتبر “نقطة سوداء” تتركز عليها غالبية الضربات الإسرائيلية في سورية.
وبحسب الباحث السوري، سعد الشارع فإن عقد التنقيب عن النفط في شرق سورية بين نظام الأسد وإيران، يقع في منطقة جغرافية شاسعة وكبيرة، وتمتد تقريباً من منطقة الصالحية التي تحوي حقل الورد النفطي وصولاً إلى الساتر الحدودي بين سورية والعراق، مشيراً إلى أن هذه المنطقة التي تحوي ما يسمى مجمع “الإمام علي” العسكرية أهم القواعد الإيرانية في سورية.
ويعتبر الشارع أن العقد يحمل رمزية أمنية وعسكرية أكثر من الوضع الاقتصادي، كون الموقع الذي جاء فيه يحوي على القاعدة العسكرية، وهو تماماً ملامس بمدينة البوكمال الحدودية مع العراق، والتي تعد إيران فيها صاحبة الكعب العالي.
ويشير الباحث إلى أن هذه المنطقة تؤمن ما يسمى “الهلال الشيعي”، الطريق البري الذي افتتحه إيران بدءاً من طهران، مروراً ببغداد ثم دمشق وبيروت، نحو المياه الدافئة على البحر المتوسط.
ويوضح الشارع أن إخراج إيران من سورية عسكرية لا يعني حقيقة إخراجها اقتصادياً، خاصة لكونها بنت شبكات كبيرة اجتماعية، وأصبح لديها الكثير من الشركات، أو تدعم بعض الشخصيات السورية بأموال أو بمشاريع معينة تغطي هذه المشاريع، لذلك توقيع هذه العقود غير أنه يحمل صفة دولية، ربما من الصعب في مرحلة معينة إلغاءها كما هو الحال مع العقود الروسية.
حلفاء الأسد.. “تحالف ظرفي” أم دائم؟
رغم أن الأنظار تتجه إلى إيران، ومدى القدرة على إخراجها من سورية، سواء من أمريكا أو إسرائيل، إلا أن هناك لاعباً على الأرض لا يمكن تحييده عن أي قرار مستقبلي، وهو روسيا، التي تعتبر الحليف الآخر وربما الأقوى للأسد، وأبرز الداعمين له بعد تدخلها عسكرياً في سورية مع نهاية سبتمبر/أيلول 2015.
وعند متابعة الاستراتيجية الروسية في سورية، منذ 2015، فإنها حققت كما يبدو بعض وأهم أهدافها بالتدريج، بعيداً عن المكاسب الفورية، مركزة على الأهداف البعيدة، وهو الأمر الذي انسحب على علاقتها مع إيران، ففي بداية التدخل، كان لزاماً على روسيا أن تتعاون مع إيران، لكون الأخيرة متواجدة بميليشيات كثيرة، وضرورية لخوض المعارك البرية التي اكتفت روسيا بدعمها جوياً ومعلوماتياً، لكن في الوقت، فإن التحالف الضروري هذا، بدأ بالتآكل، مع تثبيتٍ للخرائط الميدانية، ووصول العمليات العسكرية لنهايتها.
وتنطلق روسيا بسياستها الحالية ضد إيران في سورية من عدة منطلقات، أبرزها التنافس على الثروات، والتي من شأنها أن تسد ما تم دفعه في السنوات الماضية، ومن جانب آخر فإن إيران باتت مصدر قلق كبير للدول الإقليمية، وعقدةً أمام حلٍ ترضى بهِ روسيا.
توازن تكتيكي واستراتيجي
ويؤكد الباحث السوري معن الطلاع أن “أمر إخراج إيران من سورية صعب، لكنه سيكون قائماً إن وضع في إطار خطة استراتيجية، تتفق عليها دول الإقليم”.
ويشير إلى أن “النقطة الفيصل هي في إنجاز حل سياسي لا تريده إيران، لأن أي حل سياسي وفق الشرعية الدولية، فإن ظهران ستنكفئ بشكل كامل، لذلك نراها تقاوم بشدة في هذا الصدد”.
أما عن علاقة حلفاء الأسد، بعد مرور سنوات من العمليات العسكرية المشتركة بينهما، يرى طلاع، أن أحد إشكاليات الاستراتيجية لروسيا هي التواجد الإيراني الذي لا يزال مطية لتدخل أمريكي وتدخل إسرائيلي يعيق من إنجازات المشهد الميداني للروس، والذين يريدون إنهاء المشهد الميداني وعدم استنزافهم سياسياً.
أما على المستوى التكتيتي، يقول ذات الباحث: “هناك حاجة ملحة من الروس لإيران، طالما أن الميدان العسكري ما يزال غائماً، خاصة عندما تتوضح أكثر قضايا الاهتمام الروسي في شرق الفرات، وبالتالي احتمالية أن تخفق هذه المشاريع، وتحول إلى انزلاق المشهد العسكري أكثر وبالتالي تتطلب الحاجة إلى إيران”.
وبضيف، أن روسيا تدير علاقتها مع إيران بتوازن، ما بين التكتيكي والاستراتيجي، وهي غير مستعدة للتضحية بهذه الورقة، طالما أن هناك على طاولة المفاوضات بين أمريكا وروسيا العديد من القضايا المعلقة، وبالتالي لن تسهم في إنجاز ورقة مجانية.
ويعتبر الباحث أن “الاستغناء عن خدمات إيران في المشهد السوري من قبل روسيا مستبعد، لكن قد يكون هناك دفع روسي لتموضع وضبط الوجود الإيراني في سورية، خاصة وأن هناك العديد من المؤشرات الأمريكية التي ترى أن التواجدات الأجنبية في سورية غير شرعية، باستثناء التواجد الروسي (…) هذا يعد نقطة دفع باتجاه روسيا لضبط هذا التواجد”.
منافسة محدودة.. تناغم
إلى ذلك وتأكيداً لرؤية الباحث معن طلاع، يقول الدكتور عبد الرحمن الحاج، وهو مؤلف كتاب “البعث الشيعي في سورية”، إن تضارب المصالح الإيرانية الروسية أمر محتوم، لكن السؤال: هل تملك روسيا القدرة على إخراج منافسها في السيطرة على النظام والدولة السورية؟.
ويضيف الحاج: “قبل أن نجيب يجب أن نتذكر أن المصالح الروسية استراتيجية، أي أنها لا تتعلق بالدخول إلى الحياة اليومية للسوريين، وإنما بالسيطرة على توجهات الدولة والاستثمار فيها والحصول على منافعها الاقتصادية، فضلاً عن الحفاظ على موطئ قدم عسكري على البحر المتوسط”.
في حين -حسب الحاج- أن إيران إيران “معنية بالسيطرة على المجتمع والدولة معاً، والاستفادة الاقتصادية القصوى من الموارد السورية، واستتباع سورية كدولة من خلال نظامها الراهن للسياسات الإيرانية”.
مُعتبراً أن المساحة التي تمثل مجال للتعارض والتنافس بين الروس والإيرانيين محدودة في مجالين: السيطرة على الدولة وأجهزتها السيادية (الجيش والأمن) وتحصيل المنافع الاقتصادية بما في ذلك إعادة الإعمار.
أما خارج هذين المجالين، يعتبر الحاج، أن هنالك نوع من التعايش، لا يوجد تنافس بل تناغم بين الطرفين، مُشيراً إلى أن للإيرانيين قوات كبيرة في سورية، وقوات ميليشيات للقتال البري، لذلك فإن وجودها على الأرض يقلل من حجم التنافس.
وبحسب الباحث فإن “نقطة ضعف الإيرانيين هي التمسك بالنظام وبشخص رأسه بشار الأسد، باعتبار أن لا ضمانة لمصالحهم غير بقائه على رأس السلطة، في حين الروس يمكنهم الاستغناء عنه، ويمثل ذلك أقوى أوراق الضغط على الإيرانيين للتراجع أمام التنافس الروسي عند التعارض”.