ترى واشنطن المشهد السوري من الزاوية الإيرانية، وهو تحديداً ما يزعج موسكو، أو بصيغة أدق تتعامل الإدارة الأميركية مع الملف السوري باعتباره تفصيلاً صغيراً في واقع الوجود الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، وأحد البنود التي ستكون بين سطور الاتفاق النووي بصيغته الجديدة غير المحدّدة لانتهاء الصلاحية، ما يعني أن نضج أي حل سياسي في سورية مرهون بتقدّم الحوار مع إيران، واستبعاد الدور الروسي، كما هو الحال مع الدور السوري، بشقيه النظام والمعارضة.
ويمكن النظر إلى اللقاءات التي يجريها أعضاء في الإدارة الأميركية مع بعض الفعاليات السورية على أنها جلسات استماع، أو اختبار مشاهد ثانوية، قد يحتاجون فيها ممثلين “كومبارس” يساندون بها أدوار الفاعل الرئيسي في صراع صياغة العلاقات الدولية الجديدة، وانتزاع ما يقلق حدود إسرائيل، ويعيد ترتيب أولويات الأنظمة والشعوب في آن واحد، بما يتوافق والرغبة في استعادة الدور الأميركي قطباً وحيداً ينظم شؤون العالم بأدواته الدبلوماسية أو العسكرية إن لزم الأمر.
أما النظام السوري، فيتقوقع خلف الموقف الإيراني، ويراهن على قدرة حليفته باستمالة إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، للعودة إلى الاتفاق النووي، وتعزيز قدراتها من خلاله في مناطق نفوذها، بتحريرها من العقوبات التي أثقلت كاهلها، معتبرين أن من شأن تصريحات “النظامين السوري والإيراني” النارية، والتهديدات والتعنت، رفع أسهم طهران على طاولة الاتفاق، وهو ما ردّت عليه، في ما يبدو، يوم الخميس 25 فبراير/ شباط الماضي، وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) بضربة عسكرية مؤلمة “للبنية التحتية التي تستخدمها الجماعات المسلحة المدعومة من إيران شرقي سورية”، أي إن اللغة الدبلوماسية لبايدن مع إيران لا تنفي وجود إصبعه على زناد “بندقيته”.
تراقب روسيا سلوك النظام السوري، وترسل إليه تحذيراتها وتهديداتها على شكل رسائل إعلامية، وتسريبات لصور تظهر فيها الرئيس بشار الأسد في مواقف محرجة وصادمة لمؤيديه، أو حتى للدولة داعمته (إيران)، فالرسالة التي سُرِّبَت، عبر وسائل إعلام روسية أخيراً، ليس الهدف منها فقط إظهار واقع تدهور قوات الجيش السوري وإمكانية هزيمته أمام فصائل معارضة مسلحة، ولكن الرسالة المسرّبة هي أيضاً لإظهار عجز إيران، وكل مليشياتها من حزب الله و”زينبيون” و”فاطميون” ومرتزقة آخرين عن تحقيق أي تقدّم أو حتى القدرة على صدّ هجوم المعارضين وحماية العاصمة دمشق.
لا يحتاج النظام أن تذكّره روسيا بما قدّمته له من مساندة، وكيف أعادت له ثلثي مساحة سورية تحت نفوذه، لكن روسيا تحتاج تذكير الولايات المتحدة الأميركية، أولاً وقبل أي طرف آخر، بدورها في سورية، وأنها من صنعت الواقع الجديد للنظام بعد تدخلها، وأن ملف سورية دولياً يجب أن يبقى بيدها دون سواها. وهي، في الوقت ذاته، تريد وضع إيران في حقيقة حجمها ودورها في سورية، وأنها بكل ما قدّمته للنظام السوري من دعم، كانت ومليشياتها والجيش السوري، بعد سحب السلاح الكيماوي منه، على شفا حفرة من هزيمة قاضية، كما جاء في رسالة الأسد إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عام 2013، طلباً لتدخله قبل أن تنهار سورية وتسقط بيد الإرهابيين “الإسلاميين”.
اللافت أن الرسالة توضح دور السلاح الكيماوي في الحرب التي خاضها النظام السوري ضد معارضيه، وهي دليل إدانة واضح على أن ميزان القوى لم يعد في مصلحة النظام وإيران، بسبب تسليمه السلاح الكيماوي بعد مجزرة الغوطة، وفق الصفقة الأميركية – الروسية، وعيون الرقابة الدولية التي حدّت من استخدام ما بقي منه، ما يعني أن لتسريب الرسالة أغراضاً كثيرة، وقد يدخل في تصفية الحسابات، والتلميح إلى أن من استخدم الكيماوي قد لا يتأخر عند امتلاكه النووي في استخدامه، وتهديد السلم الدولي. ويمكن الربط بين تزامن الحديث عن تسريب رسالة الأسد إلى بوتين، وتفاعلاتها الإعلامية، مع عرض روسي للولايات المتحدة قدّمه وزير الخارجية، سيرغي لافروف، الجمعة الماضي (26/2)، باستئناف المشاورات السياسية والدبلوماسية بشأن سورية، ما يعني أن لدى موسكو ما تقدّمه لواشنطن لفضّ النزاع في سورية وعليها، بعيداً عن اتفاقاتها مع إيران والدور الجديد الذي تريده لها في المنطقة، وبما يضمن أن صاحبة القرار في الحل هي روسيا.
وضمن ذلك، يمكن فهم سبب النشاط الملحوظ لموسكو في استقبال معارضين سوريين، وتلميع أسماء عسكرية، والتفاعل مع إعادة توزيع الحصص داخل هيئة التفاوض، بما يضمن لمشاريع موسكو نسبة تصويت أعلى، باستقطابها منصة القاهرة وهيئة التنسيق، إلى جانب منصة موسكو، في مواجهة أصوات “الائتلاف” المحسوب على تركيا، إضافة إلى محاولة تنشيط مسار أستانة الذي تتزعمه من دون منازع، وتفتح من خلاله مسارات التفاوض العابرة لشريكيها، (إيران وتركيا)، الذي استطاعت من خلاله انتزاع مناطق كاملة من سيطرة الفصائل المسلحة، وإعادتها إلى كنف النظام السوري.
بعد فقدان كثير من عوامل نجاح مقايضات روسيا على الأسد مقابل ملفات أوكرانيا والعقوبات الأوروبية، وفي ظل إنهاء طموحات النظام السوري بأي مساعدات روسية قادمة، للأسباب الاقتصادية التي تعانيها سورية بسبب العقوبات، وتحت عنوان أن روسيا هي المنقذ الوحيد للأسد، وحامي حدود إسرائيل مع سورية لعقود مضت، بما يتضمنه ذلك دورها في إبعاد الهاجس الإيراني عنها، فهل ستقدّم موسكو سيناريو حلّها إلى واشنطن على حساب الأسد قبيل انتخاباته، بما ينزع مخالبه التي تهيمن على السلطات جميعها في سورية، لكن من دون أن تقوّض وجوده على الأقل في المرحلة الأولى من حلها، وتفسح المجال لأسماء متداولة محسوبة على المعارضة لتكون على قائمة حكومته الجديدة، وتسهيل عمل اللجنة الدستورية مقابل تجاوب واشنطن مع المقترح، والسماح بتسييل الأموال للبدء بإعادة إعمار سورية، ما يخفف وطأة الأزمة الاقتصادية عن بوتين في سورية وروسيا في آن واحد؟
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت