عشر سنوات من الثورة السورية..ماذا تغيّر في بنية وعقلية النظام؟
عشرُ سنوات مضت من عمر الثورة السورية، واكب فيها السوريون تطورات وأحداثٍ جمّة، انقسمت بين سياسية وعسكرية، وأُخرى اقتصادية واجتماعية.
مضى عقدٌ تبدّلَ فيه كل شيئ تقريباً في حياة السوريين، وانقلبت الأوضاع دراماتيكياً، عمّا كانت عليه قبل سنة 2011، لكن ما سبق من تغيّرات جذرية، لم يكن كفيلاً بتغيير سياسة نظامٍ كانت الثورة قد خرجت بهدف تغييره.
فعقلية النظام الذي يعكسها خطابه وسلوكه ما زالت تتمسك بنبرة العسكرة و”الحلول الأمنية” داخلياً، أما في المسارات الخارجية من جنيف إلى أستانة وسوتشي، فقد بقي النظام مُحافظاً على “متلازمة الإرهاب” ومزاعم أنه يواجه حرباً كونية، رافضاً تقديم أية تنازلات، حيال مطالب ملايين السوريين.
ورغم اتكاءِ النظام في سلوكه الرافض لأي تغيير، على دعم حلفاءه روسيا وإيران، إلا أن جزءاً من ذلك السلوك يعود بجذوره إلى بُنية النظام نفسه، وتركيبته التي تعود جذورها إلى عقود، منذ عهد حافظ الأسد.
ويقول خبراءٌ حاورهم فريق “السورية.نت”، أن نظام الأسد يعجز أساساً على اتباع سلوك مرنٍ مُغاير لتصلبه منذ عام 2011، لعلمهِ أنه وفي حال تقديم أية تنازلات سياسية أو بنيوية، سيلقى مصيراً مشابهاً للأنظمة التي سقطت في بعض الدول العربية، رغم اختلاف ظروف وتفاصيل كل بلد.
نظام أم بقايا نظام؟
ما بين عام 2011 و2021 لم يعد النظام كما كان من قبل، حسب ما يقول الدبلوماسي السوري السابق، بسام بربندي، قائلاً:”لم يعد هناك سلطة مركزية أو جيش موحد وتراتبية عسكرية منضبطة، وحكومة قادرة على تقديم الخدمات الأساسية للشعب السوري”.
ويتابع بربندي في حديثه لـ”السورية.نت”، أن النفوذ الإيراني والروسي هيمنَ على قطاعات الجيش والأمن بشكل غير مسبق، فهم يستطيعون تعيين الضباط الذين يريدون ويسيطرون على وحدات وتحركات الجيش”.
ومنذ عشر سنوات كان هناك “دولة مستقرة وقوية ومركزية ومستقلة، أما اليوم بالعكس باتت دولة ضعيفة ومهترئة، وتتدخل فيها القوى لأجندات خارجية، حتى أن هذه الدول أصبحت تدفع رواتب لقطاعات من الجيش حتى يكون ولاؤها لها”.
ويشير بربندي إلى أن بشار الأسد كان الحاكم المركزي الأول، أما اليوم فهناك مراكز قوة متعددة في أجهزة الدولة، و”صحيحٌ أنها تتبع للأسد لكنه لم يعد الآمر الناهي، وخاصة بالنسبة للميليشيات التي تدعمها روسيا وإيران. هي ميليشيا لا تتبع للقيادة المركزية”.
من جانبه يرى الباحث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية”، معن طلّاع، أنه “وفي الوقت الحالي نتحدث عن بقايا نظام وليس نظاماً كاملاً، وهذا مرده لعدة تحولات طرأت في بنيته الداخلية”.
ويقول الباحث في تصريحات لـ”السورية.نت”، أنه و”عندما نتكلم عن البنية لا نتكلم بمعزل عن مفهوم الدولة، بل نتحدث عن تلك الشبكات التي نظمها النظام الحاكم خلال سنوات حكمه، في مستويات أمنية وعسكرية واقتصادية وسياسية”.
ما الذي تغيّر؟
المستويات المذكورة (الأمنية، العسكرية، السياسية، الاقتصادية) طرأت عليها عدة تحولات، في السنوات العشر الماضية.
فعلى المستوى الأمني يشير الباحث السوري إلى سلسلة من الإخفاقات التي منيت بها الأجهزة الأمنية التابعة للنظام، سواء في الاكتشاف المسبق لـ”ثورات الربيع العربي” أو حتى بطريقة عدم نجاحها في ضبط الحراك.
ويتابع: “لاحقاً دخل في البنية الأمنية مجموعة من المحددات، جعلت من هذه الأجهزة عبارة عن شبكات متراخية ليست منضبطة. هناك العديد من الأجهزة التي تم السيطرة عليها واستنزفت”.
في المقابل كان هناك تحولات أكبر على المستوى العسكري، أولها وأبرزها في عام 2013 في معركة القصير بريف حمص، ويرى طلاّع أن “هذه المعركة اعتبرت إعلاناً رسمياً لدخول إيران وحزب الله – هو دلالة على استنزاف بشري – جراء الانشقاقات أو حتى جراء المعارك التي قام بها الجيش الحر في ردّات هجومية وليست فقط دفاعية”.
ولم يكن الاستنزاف الذي ضرب المؤسسة العسكرية كمياً بل كان استهدافاً نوعياً، وبوجهة نظر الباحث “عندما نتكلم عن العديد من الضباط الذين قتلوا والعديد من الخبرات التي فقدها النظام، فهو بالتالي يحتاج لفترة طويلة لملئ فراغ هذه الكتلة البشرية النوعية”.
بعد معارك القصير كان هناك تحول مفصلي في عام 2015، بالتدخل الروسي الرسمي لدعم نظام الأسد، وهو الأمر الذي وصفه الباحث السوري، بأنه كان “لحظة الانهيار في القوة الفنية والنوعية لجيش النظام، لاسيما سلاح الجو وسلاح المشاة المتعلق بالمدرعات والدبابات. هو أيضاً استنزاف إن صح التعبير رئيسي ومحوري”.
“ترهل وضياع سلطة القرار”
رغم “الانتصارات العسكرية” التي لا تكاد تنقطع على لسان مسؤولي النظام العسكريين والسياسيين، إلا أن هناك ثمة ما يدحض هذه الفكرة، بمنظور لا ينم عن رؤية معارضة فقط، بل بنتائج مفروضة على أرض الواقع بعد عشر أعوام من الثورة.
“مركزية القرار العسكري الميداني لم تعد بيد النظام، وهو جزء من الترهل في هذه الشبكة، التي تحتاج بناءً طويل الأمد”، ويضيف الباحث السوري: “على ما يبدو أن قانون قيصر سيجعل البناء مستعصياً”.
ويوضح ذات المتحدث أن “الجيش في 2011 كان متهلهلاً واليوم أصبح جيش بلا قوة نوعية ولا قوة بشرية، وليس لديه القدرة على اتخاذ المبادئ الاستراتيجية”.
وإلى جانب ذلك وطوال السنوات الماضية “تبين أن النظام لم يكن قادراً على حفظ المكتسبات العسكرية حيال التدخل الروسي والإيراني”.
وعلى الرغم مما سبق إلا أنه لا يمكن إغفال نقطة القوة الرئيسية في موضوع الجيش، ووفق طلاّع، فإن نظام الأسد ما يزال صاحب القرار في التعينات الرئيسية والتنقلات والتسريحات، وبالتالي لديه القدرة على توزيع المناصب على شبكاته الجديدة.
“دولة دون واردات”
بعيداً عن العسكرة والطابع الأمني في البلاد، هناك محطةٌ بارزة تتركز الأنظار عليها وفي ذات الوقت تحولت إلى حديث الشارع الموالي والمعارض، وتتردد بشكل يومي على لسان مسؤولي المعارضة السورية ونظرائهم من مسؤولي النظام.
هذه المحطة لا تخرج عن الإطار الاقتصادي لـ”الدولة”، والذي تعترضه عدة حواجز، في مقدمتها العقوبات الغربية والأمريكية، والشلل والدمار الذي حلَّ بالمقومات الاقتصادية التي كانت المنبع الأول لدوران عجلة الاقتصاد سابقاً.
الدبلوماسي السوري، بسام بربندي يقول إن “الدولة في سورية باتت مهشمة، ولا يوجد فيها واردات ولا تجارة أو صناعة، وتعتمد على المواد الأولية من إيران. وإيران وروسيا لا يعطون النظام أي منح مالية، بل قروض فقط، الأمر الذي دفعه لرهن الممتلكات السورية، لضمان تسديد هذه القروض مستقبلاً”.
ويشير بربندي “للحظة معينة سيكون هناك كم القروض أكبر من حجم الثروات في سورية، وهي نقطة الانهيار في الدولة السورية ككل”.
بدوره يقول الباحث معن طلاّع إن الساحة السورية على المستوى الاقتصادي باتت مستنزفة، فالنظام أصبح يأكل شبكاته التقليدية، وبدأ بالبحث عن شبكات غير مستقرة، معتبراً أنه “لم يعد للنظام شبكات اقتصادية تغذي مصالحه وشؤونه الاقتصادية في سورية، والتي كان يتولاها سابقاً محمد مخلوف ونجله رامي”.
أما على المستوى السياسي، فعلى الرغم من تصدر “حزب البعث” للمشهد الداخلي ولو شكلياً، إلا أن “أننا بدأنا نشهد في قبة البرلمان بروز عشرات رؤساء الميليشيات، وبالتالي دمجهم في المشهد السياسي” حسب معن طلّاع.
ويضيف: “هذا سيؤدي إلى أن يكون القرار السياسي والتشريعي أسير الرغبات الإيرانية مما هو أسير رغبات النظام. مساحات الحركة هذه لدى النظام تضيّقت إلى مستوى بعيد”.
ويؤكد أن ما سبق من تحوّلات يضاف إليها انقلاب التحالفات الاجتماعية لنظام الأسد، التي كانت سائدة منذ عهد حافظ الأسد “يجعلنا لا نستعجل القول إن النظام قد انهار، بل نتحدث عن بقايا نظام لا يمتلك أدوات تعزيز مقدرته من جديد في المدى المنظور والمتوسط”.
“التنازل يعني الانتهاء”
ما سبق من “ضعضعة قاسية” تعرضت لها بنية النظام لم تكن كفيلة بتغيير نهجه أو سياسته الخارجية، وهو الأمر الذي يطرح عدة تساؤلات، خاصة مع الدخول بالعام الحادي عشر للثورة السورية، وما يوازي ذلك من انسداد أفق المسار السياسي للبلاد، والعسكري أيضاً.
يقول الدبلوماسي، بسام بربندي إن “النظام شاهد ما حدث للقذافي في ليبيا وعبد الله صالح في اليمن وبن علي في تونس ومبارك في مصر، لذلك كان هناك نموذج واضح لآليات الحكم. الانسحاب كزين العابدين وحسني مبارك يعني تقديم التنازلات المتكررة للشعب وبالتالي فقدان السلطة”.
وبالنسبة لأركان النظام فإن تقديم أي تغيرات ولو بالكلام ستؤدي إلى انهياره كاملاً، لذلك بقي متمسكاً، ولم يقدم أية تنازلات.
ويضيف الدبلوماسي السوري السابق: “النظام تعلم الدرس وصمم منذ اليوم الأول أن يكون الجواب عسكري وحربي، وهذا ما يفسر المفردات السياسية للنظام منذ عشر سنوات”.
في المقابل يرى الباحث معن طلاّع، أن فهم السلوك الدبلوماسي للنظام وسياسته الخارجية يتطلب أن نضع في الحسبان ثلاثة عوامل.
العامل الأول هو أن “الثوابت التي ينطلق منها النظام ليست ترفاً أو مجالاً للتفاوض، لأن تنازل النظام عن أي شيء يلغي قدرته على التحكم بالمشهد السوري فهو انهيار كامل، وبالتالي التنازل له خطر وجودي على النظام، لذلك كان لديه خط أحمر بالنسبة للعمل الدبلوماسي”.
العامل الثاني يتعلق بالبنية الاجتماعية لوزارة خارجية النظام، حيث جعلت الانشقاق فردياً أكثر من جماعياً، لذلك ورغم العديد من الانشقاقات بقي الخطاب محافظ على نفسه.
ويتابع الباحث السوري: “في مرحلة مبكرة قادت إيران العديد من المفاوضات محلياً وإقليمياً، وكان النقاش حاضراً بشكل مباشر عن طريق المفاوضات مع أمريكا في الملف النووي”.
ويشير إلى عامل ثلاث لفهم السلوك الدبلوماسي للنظام بالقول:”منذ لحظة الفيتو الروسي كان واضحاً وجود مجهودات روسية عظيمة تبذل في سبيل مناصرة النظام ودعمه وكانت حاضرة في جنيف 1و2 وما تبعها من تمييع اللجنة الدستورية ومسارات أستانة. كل ذلك كان تماهياً بين الغايات الروسية وغايات النظام”.
وجعلت العوامل الثلاثة المذكورة سلوك نظام الأسد يبدو متماسكاً، وفق الباحث الذي يضيف”لكن اليوم ولقياس أثر الدبلوماسية السورية كمجهود فردي بحت لا يمكن أن نتلنس أي نتائج طالما أن الروس والإيرانيين يدعمونه إلى حد بعيد ومن خلفهم الصين”.
“سياسات ما بعد الحرب”
أمام تحولات شهدها الملف السوري عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، وفي مقابلها سياسة “عدم التنازل” التي سلكها نظام الأسد، تبقى التساؤلات حاضرة حيال تفاصيل المشهد الذي سيكون عليه عنوان المرحلة المقبلة.
ويبدو أن النظام يميل في المرحلة المقبلة إلى “سياسيات ما بعد الحرب”، وتتمثل حسب الباحث معن طلّاع “في مواجهة الحرب الاقتصادية إن صح التعبير كما يسميها، وبهذا السياق سيبقى ضاغطاً على الداخل والفاعلين الخارجيين، كي لا يقدم أي تنازل في هذا المستوى، حتى لو وصل التأزم الاقتصادي لديه إلى حد المجاعة”.
ويعتبر ذات المتحدث أن “عنوان المرحلة المقبلة سيكون محاولة الالتفاف على العقوبات الموجودة، تارة عبر لبنان والعراق، وتارة عبر إنتاج شبكات اقتصادية جديدة ومنظمات مجتمع مدني جديدة، معولاً بذلك على موسكو التي تحاول طرح صفقات عديدة، سواء عودة اللاجئين مقابل إعادة الإعمار أو ما شابهها”.
ويستبعد الباحث أن يكون هناك تغيّرات خارجة من داخل النظام نفسه في هذا السياق، إذ “نجد أن النظام يعود إلى مرحلة ما بعد الثمانيات في مرحلة موت السياسة وتأليه الحاكم، وضبط حركة المجتمعات المدنية والمحلية وفق بوصلة الأمن. إذاً هو يحاول إغلاق كافة المنافذ على أي حراك حقيقي، حتى لو اكتسى صفة النقد الذاتي وما دون ذلك”.
ومن العلاقة الاستراتيجية بين النظام وإيران وروسيا، يشير الباحث إلى أن التغييرات ولو طرأت ستكون من خارج النظام، وبزخم غير جذري، بمعنى أنها ستكون “محاولات وتكتيكات لتوسيع هوامش حركتهم، وتقريب وجهات النظر الروسية مع أمريكا، عبر الملف السوري”.
ويصف الباحث في “مركز عمران” بنية النظام بأنها تشهد “عطالة شديدة لأي تغيير أو تنازل(..)قد يتصالح النظام مع عقلية الدولة الفاشلة، لكن المتغيرات المتوقعة هي أن يبلغ التصدع حد الانكسار والتشظي، وهو ما حاصل في مشهد وتفاعلات النظام في هذه الآونة”.