“عقيدة” التحوّل الرقمي في سوريا

خلال الأسبوع الفائت، نشرت صحيفة “الوطن” الموالية للنظام السوري في دمشق، مقال رأي لطيف، بعنوان “الصرّاف الحرامي!”، يحكي فيه كاتب المقال -وهو إعلامي اقتصادي متخصص- تجربته مع صرّاف المصرف التجاري، الذي “اختلس” أمواله المتبقية في الصرّاف بعد محاولته سحب راتبه الحكومي، وتطلّب الأمر التقدّم بطلب رسمي، وتوسط ثلاثة مدراء، إلى أن تمكن من استعادتها. وفي سياق المقال، يروي الصحافي جوانب من معاناة السوريين مع الجانب الرقمي من التعاملات المصرفية. أبسط مظاهر تلك المعاناة، عجز الموظفين عن سحب مبالغ تتجاوز الـ 100 ألف ليرة سورية (نحو 6.7 دولار أمريكي)، من رواتبهم، في المرة الواحدة. مما يتطلب عمليتين أو ثلاث عمليات سحب، فيما تزدحم الطوابير أمام الصرّافات، مطلع كل شهر. وتمتد هذه المظاهر إلى العمولات المبالغ فيها على عمليات تسديد فواتير الهواتف المحمولة، واقتطاع أجور الخدمات مرتين في كثير من الحالات، دون أن تنتهي عند العجز عن حجز معاملة جواز سفر عبر منصة الاتصالات.

وفي تعبير عن الانفصال التام عن هذا الواقع، عقدت إدارة المصرف المركزي، قبل يومين، اجتماعاً مع مدراء المصارف والمختصين بالدفع الالكتروني، لبحث خطة تنفيذ برنامج التحوّل الرقمي الذي يروّج له مسؤولو النظام منذ أكثر من سنتين ونصف السنة. وفي الخبر المنشور عن مضمون الاجتماع، تشعر وكأننا نتحدث عن بلد آخر غير سوريا، لا عقوبات تقيّد تعاملات مصارفه مع الأسواق العالمية، ولا هشاشة في بنيته التحتية على صعيد الطاقة والاتصالات. تقرأ مثلاً، أن حاكم المصرف بحث مع المجتمعين “إصلاح وتطوير البنية الوطنية للدفع الإلكتروني وفقاً للمعايير العالمية..”، بهدف التأسيس لنواة مستقبلية “لربط المصارف العاملة في الجمهورية العربية السورية مع شبكات الدفع العالمية..”، بما يتيح “.. توسيع رقعة استخدام التبادل التجاري من خلال الدخول إلى سوق الدفع الإلكتروني العالمي”.

بالنسبة للكثيرين ممن يعرفون جيداً الوضع في الداخل السوري، تبدو السطور السابقة مثيرة للسخرية. أو قد يتخيّل بعضهم أنها ألقيت في سياق اجتماع “بعثي”، على غرار ذاك الذي أطل فيه رأس النظام، قبل أسبوع. لكن مستويات الحكومة المختلفة، تظهر جدّية في تنفيذ ما تدعوها بـ “استراتيجية التحوّل الرقمي في سورية”. وأبرز مظاهر هذه الجدّية، تنفيذ ما بات يُعرف بـ “الربط الالكتروني”، لقطاعات اقتصادية، قطاعاً تلو الآخر، بشكل متسارع، منذ بداية هذا العام. وتستهدف هذه العملية، تحقيق “الفوترة الالكترونية” بغية زيادة التحصيل الضريبي.

وكانت آخر القطاعات التي وصلها قطار “الربط الالكتروني”، قطاع الصاغة، قبل أيام. والذي دخل بحالة أشبه بالإضراب، وفق ما نقل تقرير نشره موقع “تلفزيون سوريا”. إذ أزالت بعض محلات الذهب في العاصمة دمشق، المصوغات من واجهاتها، وامتنعت أخرى عن البيع. ويعترض بائعو الذهب، كسواهم من أرباب المهن والنشاطات الاقتصادية، على عملية “الفوترة الالكترونية” الجارية الآن، بوصفها غير مكتملة وتحتاج للكثير من الضبط والتوضيح قبل تطبيقها.

وفي ظروف مختلفة، كان يمكن لمشروع “التحوّل الرقمي” في سوريا، أن تُرفع له قبعة التحية والتقدير. فرقمنة التحصيل الضريبي في البلدان النامية، من أبرز مصادر زيادة الناتج المحلي الإجمالي، وتحقيق الوفورات الاقتصادية. لكن لهذه العملية، شروطاً أولية، لا بد من تأسيسها، قبل البناء عليها. من أبرزها، توافر الكادر البشري المؤهل، ووجود أنظمة دفع رقمية فعّالة، وتوافر مخصصات مالية لتنفيذ هكذا “تحوّل”، والأهم على الإطلاق، توافر البنية التحتية، من أجهزة وشبكة اتصالات. من دون أن ننسى عوامل أخرى لا تقل أهمية، كالثقة بين المكلفين ضريبياً، والجهات المسؤولة عن التحصيل الضريبي. ثقة لها وجهان، الأول يتعلّق بكيف تُحتسب الضريبة؟، والثاني يتعلّق بأين تُصرف الضريبة؟

في “سوريا الأسد”، لا تتوافر أية عوامل مادية أو معنوية، مما سبق. ورغم ذلك، يصرّ النظام على الذهاب قدماً في فرض شكل مشوّه ل”الرقمنة”. وكمثال، أقرّ معاون وزير الاتصالات، قبل أيام، أن “التحوّل الرقمي” في سوريا، يفتقد للكوادر المتخصصة بسبب ضعف التحفيز المادي. وضرب مثلاً، بأن رقمنة السجل العقاري بشكل كامل، يتطلب نحو ربع قرن. لكن ذلك لم يلجم نظام الأسد عن افتتاح فعاليات مؤتمر الدفع الالكتروني الثاني في فندق داما روز بدمشق، بحضور ممثلي شركات محلية “مرخّصة” في هذا المجال، قبل نحو أسبوعين. وبمناسبة الشركات “المرخّصة”، يحضرنا هنا، تلميح أحد ممثلي التجار بالعاصمة، إلى خشيته من أن يكون برنامج الربط الالكتروني، شبيهاً ببرنامج “تكامل”.

وللتذكير، “تكامل”، هي الشركة المنفّذة لمشروع “البطاقة الذكية” التي يحصل السوريون بموجبها على مخصصات محددة من المواد الغذائية والمحروقات المدعومة وغير المدعومة. وكما بات معروفاً، لشقيق أسماء الأسد –زوجة رأس النظام-، وابن خالتها، أسهم رئيسية في الشركة التي حققت أرباحاً طائلة جراء الرسوم التي تحصل عليها جراء كل معاملة يجريها سوريٌّ، للحصول على سلع أساسية بالنسبة له، على مدار العقد الفائت.

وهكذا، يمكننا أن نعتبر “التحوّل الرقمي” في “سوريا الأسد”، “عقيدة”، على غرار “عقائد” حزب البعث الحاكم، في قضايا القومية العربية وفلسطين وسواها. فهي تجارة مربحة للمسؤولين والمتنفّذين، وبروباغندا ملائمة للاستهلاك المحلي، وللتصدير في الإقليم، إن لزم الأمر. أما من حيث النتائج على الصعيد الاقتصادي، فبوادر ذلك تبدت في قطاع الصاغة كمثال. فحجم اقتصاد الظل ازداد. ومن لا يتقن فنونه من رؤوس الأموال المحلية، فسيُيَمّم وجهه، شطر أي بلدٍ غير سوريا.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا