قد يتهمنا البعض بأننا اعتمدنا عنواناً يستدعي مشاعر عدائية “غرائزية” في أوساط مجتمعاتنا. وقد يكونون محقين جزئياً في ذلك، فـ “اليهودي المولد” الذي نتحدث عنه، اعتنق “اللاأدرية” في سنوات نضجه. لكن، في المقابل، فإن الاستعارات الغيبية المسجلة في تعليقات أنصار مدرسته الاقتصادية الشهيرة، تستدعي إلى الذاكرة نظرية “الشعب المختار”، المتجذرة في “الآيديولوجية اليهودية”، الأمر الذي يجعل وصمه بـ “اليهودي”، أمراً فيه جانب من الموضوعية.
وإن كنا لا نعلم على وجه التحديد، إن كان رأس النظام السوري، بشار الأسد، يعرف أفكار منظّر “مدرسة شيكاغو”، الراحل ميلتون فريدمان، إلا أننا واثقون من أن الأول يعتنق، وبحماسة، عقيدة فريدمان، الذي وصفته مجلة “التايم” عام 1969 بـ “العفريت” أو “الآفة”. فـ ميلتون، يُعتبر مؤسس النيوليبرالية المتوحشة، وهو الأب الروحي لدعوات رفع الدعم وتحرير العملة. تلك ذاتها، التي “آمن” بها الأسد، وظهر ذلك جلياً في السياسات الاقتصادية المُطبقة في عقده الأول من الحكم بسوريا، قبل أن يكشر أنيابه عن “وحشية” غير مسبوقة، في سياسات حكومته الاقتصادية المُعتمدة، منذ أن بدأت كفّة الصراع المسلح تميل لصالحه، قبل خمس سنوات.
ولن نُفاجأ إن اكتشفنا، بطريقة ما، أن بشار الأسد يظن أنه “مُختار” أو يحظى برعاية “إلهية” ما. فهي طريقة تفكير مشتركة لدى معظم المؤمنين بأفكار “فريدمان”. حتى لو لم يكونوا يدركون ذلك. ففي عام 2005، وبعيد إعصار كاترينا الكارثي، الذي ضرب مدينة نيو أورلينز الأمريكية، بشدة، ولقي 1500 شخص حتفهم جراءه، ودُمرت مئات المنازل، وقُدّرت الخسائر بحوالي 100 مليار دولار أمريكي، قال عضو جمهوري في الكونغرس من أبناء المدينة، وهو كان أحد المحسوبين على “لوبي شركات”: “ها قد حللنا مشكلة الإسكان الشعبي في نيو أورلينز. لم نستطع أن نفعل ذلك نحن. لكن الله استطاع”. وفي سريلانكا، بجنوب شرق آسيا، وبعيد تسونامي 2004، باعت الحكومة الخط الساحلي كله، وحولته لمنتجعات فاخرة ومنعت آلاف الأشخاص الذين كانوا يعتاشون على صيد السمك من إعادة بناء قراهم، أو الاقتراب من الشاطئ. ويومها، أعلنت الحكومة السريلانكية: “من خلال ضربة عنيفة للقدر، قدمت الطبيعة لسريلانكا فرصة فريدة. سيُولد من رحم المأساة، مقصد سياحي عالمي”.
وعلى المنوال نفسه، نسج أتباع مدرسة “ميلتون فريدمان”، تجارب مماثلة، ترتكز على استغلال الكوارث الطبيعية أو الحروب، لإنجاز تحولات اقتصادية “نيوليبرالية”، ما كان يمكن للشعوب المستهدفة أن تقبل بها، في ظروف مختلفة. إنها “عقيدة الصدمة”، التي تحدثت عنها بتميّز، الصحافية الكندية الشهيرة، نعومي كلاين، عام 2007. تلك العقيدة التي تستنسخ “مستوطنات القدس الجديدة” وتقوم على محو ما بقي من المجموعات السكنية والمجتمعات المتجذرة، والإسراع باستبدالها، قبل أن يتمكن ضحايا الكوارث والحروب من استيعاب الصدمة، والتحرك للمطالبة بما كان ملكاً لهم، سابقاً.
تلك العقيدة بالذات، تُطبق بتسارع كبير في سوريا، اليوم. وما بدأ بمشاريع من قبيل “ماروتا سيتي” و”باسيليا سيتي”، القائمة على استبدال سكان الحواضن المناوئة، وطردهم، وسلب أملاكهم، لصالح متمولين موالين للنظام، لن يتوقف عند هدم مقهى الحجاز التاريخي، الذي قالت سلطات النظام، إنه لا يتمتع بـ “هوية تراثية” أو “تبعية تاريخية”، متجاهلةً المكانة التي يحظى بها في الذاكرة الشعبية لسكان دمشق وزوارها، على مدار سبعة عقود من تاريخنا الحديث.
فالنظام الذي حوّل “الدعم” الخاص للمواد الأساسية، إلى بطاقات تُوصف ظلماً بـ “الذكية”، تستثمرها شركة تعود ملكيتها لأسماء الأسد، هو ذاته الذي أصدر القانون رقم “10” سيء الصيت، الذي يحدد شروطاً تعجيزية لإثبات ملكية المُهجّرين، بهدف سلب ممتلكاتهم.
ويخطئ من يظن، أن بشار الأسد “آمن” بـ “عقيدة ميلتون فريدمان”، مؤخراً، بعيد سنوات الثورة ضده، فحكومة الأسد باشرت منذ العام 2007، باعتماد سياسات “نيوليبرالية”، منها، المشروع الذي أثار الكثير من الجدل، في حينها، والذي استهدف هدم أبنية قديمة واقعة خارج السور الروماني للعاصمة دمشق من أجل شق طريق عريض وإقامة أبنية تجارية حديثة، ضمن استثمارات لحفنة من رجال الأعمال المؤتلفين حينها، تحت قيادة “رامي مخلوف”، حين كان الأخير وكيل أعمال “آل الأسد”.
وكان المشروع في ذلك التاريخ، يستهدف إزالة “سوق ساروجة” الشهير، وكذلك سوق “النحاسين”، وأحياء ومعالم أخرى، ضمن المنطقة ذاتها، بذريعة أنها “عتيقة” وليست أثرية، وهو ما تطلب توجيه رسالة من “اليونسكو” تحذّر من هذه الإجراءات، وأثرها السلبي على المدينة القديمة وقيمتها التراثية. وتوقفت عجلة ذلك المشروع بعد سنتين تقريباً، جراء الضجة التي أُثيرت حوله، كما توقفت عجلة سياسات “عبد الله الدردري”، نائب رئيس الوزراء الأسبق، القائمة على استراتيجيات “التحرر الاقتصادي” بطريقة “الصدمة”، والتي كانت من الأسباب العميقة للثورة السورية عام 2011.
وهكذا، كان الأمر يتطلب “صدمة” من قبيل إلقاء البراميل المتفجرة على رؤوس الأهالي، واستهدافهم بالكيماوي، وسط صمت وتواطؤ إقليمي ودولي، كي تُستأنف عجلة مشاريع كهذه من جديد. فـ “رامي مخلوف” استُبدل بـ “أسماء الأسد”، وما كان الأول عاجزاً عن تمريره قبل أكثر من عقدٍ، نظراً لحاجة رأس النظام لحد أدنى من “الشرعية الشعبية”، تريد “أسماء” اليوم تمريره بوتيرة متسارعة. فهي وزوجها، لم تعد تعنيهم أية “شرعية”، بعد أن اختبروا الذهاب إلى حدود قصوى من اعتماد “شرعية” السلاح والقسر، و”الصدمة”. ومن الأخيرة بالتحديد، يستمد نظام الأسد، اليوم، شرعيته. ببصمات فكرية جليّة من “يهودي” راحل.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت