لم تكن العلاقات بين السعودية والنظام السوري مثالية في أي وقت من الأوقات في عهدي الأب حافظ الأسد، ووريثه بشار. وظلت هذه العلاقات مطبوعة بالتوتر العلني أو الضمني على الدوام، بسبب التحالفات المشبوهة وسياسة الابتزاز لنظام الأسدين، بدءا من الوقوف مع إيران في حربها مع العراق في ثمانينات القرن الماضي، مرورا بالطعنات المتكررة للسياسة السعودية في لبنان وعرقلة تنفيذ اتفاق الطائف، وكانت الذروة باغتيال رجل السعودية في لبنان رفيق الحريري، ثم تصريحات بشار الأسد بعد حرب تموز 2006 والتي انتقد فيها علنا موقف السعودية، وصولا إلى إحباط السياسة السعودية الرامية إلى تحقيق قدر من الوفاق الفلسطيني عبر الانقضاض الأسدي- الإيراني على اتفاق مكة بين حماس وفتح، في إطار سعي النظام الدائم للاستحواذ الكامل على الورقة الفلسطينية.
ومع اندلاع الثورة السورية في ربيع عام 2011، كانت السعودية من بين الدول القليلة التي وضعت ثقلها للإطاحة بنظام الأسد الذي لم يكن حليفا موثوقا في يوم من الأيام، غير أن التكتيكات التي اتبعتها السعودية في هذا السياق لم تكن موفقة تماما، حيث تجنبت تقديم الدعم للقوى الحقيقية التي تبنت أهداف الثورة السورية، وظل دعمها خاضعا لحسابات بعض القوى الإقليمية والدولية، وفي طليعتها الولايات المتحدة، والتي لم تكن جادة في الإطاحة بالنظام.
ومع حلول العام 2015، حين تدخلت روسيا عسكريا لصالح النظام، (بالتزامن مع صعود ولي العهد، محمد بن سلمان إلى السلطة) سرعان ما انكفأت السياسة السعودية في سوريا، لينحسر الدعم للفصائل العسكرية في العام التالي، ثم يتوقف نهائيا مع تمكن النظام من السيطرة على محيط دمشق والجنوب السوري، وحشر المعارضة المسلحة في الشمال السوري، ولتتقاسم روسيا وإيران وتركيا النفوذ، إضافة إلى الولايات المتحدة الموجودة كقوة أمر واقع في شرقي البلاد، مع تهميش دور الأطراف العربية، بما فيها السعودية.
ومع هذا الانحسار للمعارضة، عملت السعودية على تشكيل معارضة سياسية تلائم الصيغ والمسارات التي تطرحها روسيا للحل (هيئة التفاوض السورية) وهي مسارات، بعيدة في جوهرها عن القرار الدولي 2254 الذي دفعت إليه القوى الفاعلة في الملف السوري، وعلى رأسها السعودية، ليتضح سريعا أنها مجرد متاهات لتضييع الوقت، والالتفاف على الصيغة الدولية للحل، وهدفها في نهاية الأمر مجرد إبقاء نظام الأسد على رأس السلطة، دون أي أثمان سياسية.
وبالتزامن مع ذلك، واجهت السعودية تهديدات مباشرة لأمنها الوطني من خلال الحرب في اليمن ضد الحوثيين، ومن خلفهم إيران، والتي استنزفت السياسة السعودية، ودفعتها للبحث عن مخارج في كل الاتجاهات، ما أسهم في إعادة تشكيل الخيارات الاستراتيجية للرياض، مع الشعور المتنامي بخطأ الاعتماد الكلي على التحالف مع الولايات المتحدة للحفاظ على أمن المملكة، في ضوء التراخي الأميركي حيال التهديدات الإيرانية العميقة للسعودية في حرب اليمن، والتي وصلت إلى حد مهاجمة أهداف حيوية داخل المملكة بالمسيرات والصواريخ بذراع الحوثيين، وهو ما دفعها في نهاية المطاف إلى عقد صفقة برعاية صينية للتهدئة مع إيران، الأمر الذي أدى تلقائيا إلى تسريع خطوات الانفتاح على النظام السوري والتي مهد لها وزير الخارجية السعودي بالقول في تصريحات متكررة بأن الوقت قد حان للتعامل بطريقة مختلفة مع الوضع في سوريا. ثم جاء الزلزال المدمر في جنوبي تركيا وشمالي سوريا، ليتيح حصول أول اتصال علني بين الجانبين بعد إرسال الرياض مساعدات إنسانية مباشرة إلى مطار حلب، ثم إعلان السعودية أنها تجري محادثات مع النظام السوري لاستئناف تقديم الخدمات القنصلية بين الطرفين، وصولا إلى زيارة وزير خارجية النظام إلى جدة، ثم الاجتماع الوزاري العربي في الرياض حول سوريا.
وينطلق التوجه السعودي الجديد تجاه سوريا من باقة أوسع في توجهات السياسة الخارجية السعودية والقائمة على “تصفير” المشكلات مع الجيران، وهي سياسة سبقتها إليها كل من الإمارات وتركيا، حيث شهدنا سلسلة مصالحات لهذه البلدان، استعدادا منها كما يبدو لاستحقاقات متوقعة في المنطقة، بعد الحرب الروسية في أوكرانيا، وتزايد حدة الاستقطاب الدولي، مع دخول الصين القوي على خط السياسة الدولية، بما في ذلك الشرق الأوسط، وهو ما تجلى بدور الوساطة الذي لعبته بكين بين السعودية وإيران.
وترى السعودية أن بقاء الوضع في سوريا كما هو يضر بالمصلحة العربية، ويتيح لإيران تعزيز نفوذها فيها بصورة أكبر، وأن الانفتاح على النظام في دمشق، سيمكن الأخير من التعامل بندية أكبر مع إيران، وبسط سيطرة الدولة على جميع الأراضي السورية، بما يتيح إضعاف وجود الميليشيات التي تدعمها إيران، خاصة قرب الحدود الجنوبية والتي تتولى الإشراف على تهريب المخدرات باتجاه الأردن ودول الخليج العربي، كما قد تتسبب في اندلاع توترات مع إسرائيل سوف تشمل المنطقة بأسرها.
ويبدو أن صناع القرار في السعودية توصلوا إلى قناعة بعد سنوات من الحروب والمواجهات في سوريا واليمن وداخل المملكة نفسها، إلى قناعة بأن على السعودية أن تتولى نزع شوكها بنفسها، من خلال التحاور المباشر مع المتسبب الرئيسي بمجمل المشكلات الخارجية للسعودية وهو إيران، وهي تتوجه بأمل كبير للانخراط في خطط بناء طموحة على الصعيد الداخلي خلال السنوات والعقود المقبلة والمتمثلة في مشروع المملكة 2030.
غير أن ثمة عدة عقبات قد تحبط هذا التوجه السعودي تجاه النظام السوري المتمرس في سياسات التسويف والابتزاز، ومحاولة اللعب على الحبال، حيث سيحاول الاحتفاظ بعلاقات قوية واستراتيجية مع إيران وحزب الله، مع محاولة الإفادة في الوقت نفسه من الدعم الاقتصادي والشرعنة السياسية في علاقاته مع السعودية والمحيط العربي، فضلا عن عدم استعداده للخوض في أي مسار للانتقال السياسي أو حتى مجرد إشراك جزء من المعارضة في السلطة، ناهيك عن الخطوات الأخرى التي تطلبها المبادرة العربية (الأردنية في الأساس) والتي واظب النظام على التلكؤ فيها، مثل إطلاق سراح المعتقلين السياسيين (أكثر من 150 ألف معتقل) والسماح بعودة آمنة وكريمة لملايين اللاجئين السوريين، وضبط تهريب المخدرات عبر الحدود.
كما أن السعودية، ومجمل الدول العربية، لا تستطيع أن تمضي بعيدا في التطبيع مع نظام الأسد إذا تمسكت الولايات المتحدة والدول الأوروبية بموقفها الرافض لهذا التوجه، طالما لم يرتبط بحل سياسي واضح يستند إلى القرارات الدولية ذات الصلة. ومن المعتقد أيضا أن إيران لن تسمح على الأرجح للنظام في دمشق بأن يرتمي في الحضن العربي بشكل كامل، فهي ترحب فقط بانفتاح عربي محدود يتضمن ضخ الأموال والاستثمارات دون أثمان سياسية، سيكون في مقدمتها ابتعاد النظام عن إيران نفسها، وهو ما سيدفع النظام إلى الحذر الشديد في التعامل مع الانفتاح العربي عليه، مع الضعف الواضح في قدرته اليوم على الموازنة في علاقاته بين محيطه العربي وإيران، كما كان يفعل نظام حافظ الأسد من قبل.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت