وضع الهجوم الأميركي على الحدود السورية العراقية جملة أهداف أساسية أمام إسرائيل، التي لم تخف مفاجآتها من السلوك العسكري للرئيس جو بايدن، في إشارة التقطتها الأوساط الإسرائيلية التي أحصت 77 يوماً لأول هجوم أميركي على سوريا بعد تولي دونالد ترامب الرئاسة، في حين أن بايدن لم يمض شهره الثاني في البيت الأبيض حتى نفذ هجومه باتجاه سوريا.
لعل أول الأهداف الإسرائيلية من الضربة العسكرية الأميركية باتجاه الحدود السورية العراقية أنها وسيلة من إدارة بايدن لإبلاغ جميع الفاعلين الإقليميين بأن الولايات المتحدة تعلمت من أخطاء الرئيس الأسبق باراك أوباما، صحيح أنها تحاول تحقيق أهدافها بالوسائل الدبلوماسية، لكن الخيار العسكري الأميركي مطروح على الطاولة، وهو حقيقي ومؤلم.
ثاني الأهداف الأميركية وفق ما يتداوله الضباط الإسرائيليون في الأيام الأخيرة بشأن هدف الهجوم الأميركي أنه في المقام الأول يسعى لإعادة تأهيل الردع العسكري الأميركي في المنطقة، وهناك هدف ثالث لا يقل أهمية يتعلق بأن إيذاء الأميركيين سيقابل برد فوري سيؤذي الجناة بمجرد تحديدهم على وجه اليقين.
الهدف الرابع من هذا الهجوم موجه للإيرانيين في سياق المشروع النووي، ومشروع الصواريخ الباليستية طويلة المدى، والاستيلاء على دول في الشرق الأوسط من خلال أذرعها في المنطقة، والرسالة مفادها أننا جادون في الجهود المبذولة لمنع الأسلحة النووية في إيران من خلال الدبلوماسية والحوار.
الهدف الخامس موجه لإسرائيل، مفادها أنها إذا حاولت إيران اقتحام النادي النووي، فيمكن لإسرائيل الاعتماد على المساعدة الأميركية، من خلال مشاركتها العملياتية في الهجوم على المنشآت النووية الإيرانية، قد يقول البعض إنَّ هذا استنتاج بعيد المدى، لكن هناك دلائل أخرى على أن الولايات المتحدة بقيادة بايدن لا تستبعد تمامًا استخدام الوسائل العسكرية ضد إيران، في حالة الضغط على حلفاء الولايات المتحدة.
هدف سادس قرأته إسرائيل في ذلك الهجوم الأمريكي باعتباره تهديداً موثوقاً به ضد تطلعات الصين نحو تايوان، ومحاولاتها للسيطرة على بحرها الجنوبي، وكل ذلك يؤكد أن واشنطن، وإن لم تقل ذلك صراحة، لكن لا تزال تعتقد أن الخيار العسكري الأميركي مطروح على الطاولة.
الهجوم الأميركي المشار إليه يعني بالنسبة لكثير من الأوساط الإسرائيلية أن يسجلوا مفاجآتهم من إدارة بايدن، التي فعلت ما قالت إنها ستفعله، وفحصت على ما يبدو المعلومات الاستخبارية مع عملاء استخبارات آخرين في المنطقة، ولذلك جاء الهجوم على قاعدة لوجستية وعملياتية أنشأها قائد فيلق القدس بالحرس الثوري قاسم سليماني كجزء من الوجود العسكري الإيراني في سوريا.
تعمل هذه القاعدة كمحطة عبور مهمة جداً على الممر البري بين طهران ودمشق ولبنان، وتضم ميليشيات موالية لإيران من أفغانستان والعراق وباكستان، وترسل رجالها إلى الحدود مع إسرائيل، أو لمحاربة المعارضة السورية المسلحة في الشمال، وتقع على بعد مئات الكيلومترات من الحدود الإسرائيلية، وبالتالي أكثر عرضة للهجمات الإسرائيلية.
يعيد الهجوم الأميركي على الحدود السورية العراقية إلى الأذهان الإسرائيلية، الحديث المتواتر عن زيادة الهجمات الإسرائيلية على مواقع إيرانية في العراق، وسط تلميحات بمواصلتها في الفترة القادمة، بعد أن تسبب الفشل الإيراني في تثبيت وجودها في سوريا بدفعها لاستخدام الأراضي العراقية، لاسيما أن تسريبات سوريا محلية تحدثت أن النظام تقدم بطلبات للإيرانيين لإخلاء مطار دمشق من قواعدهم العسكرية التي تمت مهاجمتها عدة مرات من سلاح الجو الإسرائيلي، مما دفع إيران لافتتاح ممر بري بديل في العراق، ويجعلنا نتوقع أن نسمع قريبا عن هجمات إسرائيلية جديدة في العراق.
كل ذلك يعني أن المعركة الإسرائيلية، واليوم تنضم إليها الأميركية، لملاحقة الوجود الإيراني في المنطقة وصلت إلى العراق، مع أن ذلك الوجود هناك ليس جديدا، فإيران تعمل في العراق منذ سنوات طويلة، خاصة من خلال الحرس الثوري، وبصورة علنية.
الاستخبارات الإسرائيلية كشفت أن إيران تسعى لزيادة عملياتها في العراق، انطلاقا من دافعين اثنين: السيطرة على مزيد من مفاصل القوة في الدولة عشية الانسحاب الأميركي من المنطقة، وأن يكون العراق قاعدة بديلة لميليشياتها المنتشرة في سوريا، بعد ازدياد الهجمات هناك، مع أن أوساطا استخبارية إسرائيلية قدرت أن هذه القواعد قد تصبح مستقبلا منصات لإطلاق الصواريخ تجاه إسرائيل.
في ظل العمليات الإسرائيلية المكثفة في سوريا، واليوم في العراق، ويضاف لها الهجوم الأميركي الأخير، فإن إيران لن تتراجع عن خططها لتسليح ميليشياتها بأسلحة متطورة، وإقامة مواقع عسكرية متقدمة لقواتها في سوريا، مما يعني أن عمليات الجانبين المضادة، إيران وإسرائيل، ستستمر فترة قادمة من الزمن.
لم يعد سراً، وفقا للمعلومات الإسرائيلية المتواترة، أن الهجوم الأميركي الحالي على الحدود السورية العراقية، يمنح دعماً للهجمات الإسرائيلية المستمرة على العراق وسوريا، وطالما أن إسرائيل تعمل في أي مكان لمنع اندلاع حرب أمام إيران، فإنها تستخدم الأراضي العراقية لتحسين مديات صواريخها المتطورة، بعد أن شكلت الضربات الإسرائيلية لقواعدها في سوريا استنزافاً متواصلاً لها.
يوجد العراق في مدى الطيران الإسرائيلي منذ سنوات الثمانينيات، حين تم مهاجمة مفاعله النووي عام 1981، مع العلم أن الأميركان لا يحبون أن يهاجم الإسرائيليون العراق، لأنه يتسبب لهم بمشكلات مع الحكومة العراقية، ولذلك يمكن التقدير أن هذه الهجمات الإسرائيلية تتم من خلال طائرات سرية، دون أن يعلم أحد بتبعات ونتائج الهجوم الأميركي على الحدود السورية العراقية.
هذا يعني أن مهاجمة إسرائيل للعراق لا يتطلب منها أخذ إذن من أي دولة، لأن الرسالة الأساسية لهذه الهجمات أن إسرائيل ستعمل كل ما بوسعها ضد الوجود الإيراني الذي يستهدفها، بغض النظر عن مكان الاستهداف، وتعقيداته، على اعتبار أن إسرائيل تهاجم في سوريا، ولا تطلب إذناً من روسيا، وكذلك إن هاجمت في العراق، فلا تحتاج إذناً من أحد، بمن فيها الولايات المتحدة.
لعل الهجوم الأميركي الأخير يمنح “مشروعية” إسرائيلية لذلك، فقط يمكن لإسرائيل أن تبلغ الجهات التي ترتبط بعلاقات جيدة معها عن نيتها بالهجوم، وتقوم بذلك منعا لأي سوء تفاهم ميداني، كأن تتواصل مع القيادة العسكرية الروسية حين تهاجم مواقع في سوريا، وكذلك الأمر في العراق، فهي تبلغ الأميركان حين تنفذ هجمات مماثلة هناك.
لقد حاز التوتر الأمني والعسكري على الجبهة السورية العراقية على حيز كبير من تغطية وسائل الإعلام الإسرائيلية، في ظل ارتفاع مستوى الهجمات الإسرائيلية، ومستوى الرد الإيراني عليها، إن حصل فعلا، مما يؤكد أن الهجمات الإسرائيلية المستمرة على سوريا تحتم على دوائر صنع القرار في تل أبيب اعتبارها معركة حاسمة، لا سيما أنها ارتفعت في الأسابيع الأخيرة خطوة إضافية في ضوء الهجوم الأميركي على الحدود السورية العراقية، مما يوصل العملية الإسرائيلية المستمرة في سوريا إلى مفترق طرق.
هذا المفترق تنظر إليه إسرائيل على أنه استمرار لهذه الهجمات دون توقف، في ظل أن هناك ثلاثة أهداف تضعها إسرائيل من هجماتها داخل سوريا، وهي: منع إقامة جبهة عسكرية جديدة على حدود الجولان، والحيلولة دون الوجود العسكري الإيراني في سوريا، وحرمان حزب الله والقوات الإيرانية في سوريا من حيازة أسلحة هجومية بعيدة المدى.
وخشية من التصعيد، ودخول المواجهة في سوريا مرحلة غير مسيطر عليها، أو وجود شكوك بعدم تحقيق هذه الهجمات لأهدافها، فإن الدعوات تتزايد في إسرائيل بالاستمرار في العمليات الهجومية داخل سوريا، استمرارا لاستراتيجية “المعركة بين الحروب” التي صممها الجنرال غادي آيزنكوت قائد الجيش السابق قبل أربع سنوات.
تتقاطع الهجمات الإسرائيلية ضد سوريا، وأحياناً باتجاه الأراضي العراقية، مع تطلعات المعركة بين الحروب، ويمكن إدراجها في إضعاف العناصر المعادية، وتحقيق الردع، وإبعاد شبح الحرب القادمة، لكن التساؤلات بدأت تطرح في الأروقة العسكرية الإسرائيلية عن مدى إنجاز الهجمات الأخيرة على سوريا لهذه الأهداف، لا سيما الهدف المتعلق بإرجاء موعد المواجهة المستقبلية.
مع العلم أن الضربات الإسرائيلية على سوريا في السنوات الأخيرة بين 2015-2021، بما فيها الهجوم الأميركي على الحدود السورية العراقية، تذكرنا بالضربات ذاتها التي سبقت اندلاع حرب عام 1967، فقد بدأت تل أبيب هجمات مركزة على دمشق منذ عام 1964، وهدفت إلى: إحباط خطة تحويل مصادر نهر الأردن، فرض السيادة الإسرائيلية على المناطق المنزوعة السلاح على الحدود مع سوريا، والعمليات ضد المنظمات الفلسطينية، خاصة إقامة حركة فتح لقواعد عسكرية داخل معسكراتها التنظيمية في سوريا.
وبعد أن أبدى رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي آنذاك إسحاق رابين قناعته بأن حسم الحرب مع سوريا كفيل بالتخلص من تهديد حركة فتح حينها، فإن ذلك يفسح المجال لأن يعيد التاريخ نفسه بعد مرور أربعة وخمسين عاما على اندلاع حرب “الأيام الستة” بالمصطلح الإسرائيلي، و”النكسة” بالمفهوم العربي!
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت