أثار الانفجار الذي وقع في مرفأ بيروت الأسبوع الماضي، ووصفه خبراء بأنه أكبر انفجار غير نووي في التاريخ، نقاشا حادّا داخل لبنان وخارجه بشأن موضوع التحقيق في الحادث، فقد طالبت جهات لبنانية سياسية وأهلية (وأطراف دولية أيضا) بتحقيق دولي، لانعدام الثقة بأجهزة الدولة، ليس لجهة قدرتها على إجراء التحقيق والتوصل إلى نتائج، بل بخصوص قدرتها على كشف الحقائق في ظل نظام محاصصةٍ تتستر فيه نخب الفساد الحاكم على زبائنها، وتتوجّس الطوائف من اتهام أزلامها، لأنها تعتبر ذلك إدانة لها أو للجهة التي تقف وراء التعيينات القائمة على مبدأ تحاصص الدولة بدل الكفاءة وتحقيق المصلحة العامة. الطرف الآخر، والذي يمثله خصوصا الرئيس ميشال عون، ونبهتنا وسائل إعلام لبنانية إلى أن مديرية الجمارك العامة من حصته، يرفض وحلفاؤه قطعا فكرة التحقيق الدولي، بذريعة أن هذا ينتقص من سيادة البلد واستقلاله!
أعادت حادثة بيروت إذاً فتح النقاش الذي خفتَ في السنوات الأخيرة بشأن قضايا السيادة، وحق المجتمع الدولي في التدخل عندما تكون الدول المستقلة، المتمتعة بالسيادة، عاجزةً عن حماية مواطنيها، أو ترتكب هي نفسها جرائم ضدهم، بصورة متعمدة، كما يحصل في سورية، والصين، وميانمار، أو عندما يتسبب إهمالها وفساد أجهزتها بذلك، كما حصل في بيروت الأسبوع الماضي.
النقاش حول التدخل (الإنساني) الدولي لحماية المدنيين في دول “فاشلة” أو “متوحشة” برز بقوة في أعقاب الحرب الباردة، وانتصار النظام الليبرالي الغربي، وزوال الأسباب التي كانت تدفع دول الغرب إلى دعم حكومات مستبدّة لمجرّد أنها تقف معها في الصراع ضد الشيوعية. هذا لا يعني أن التدخل الإنساني الذي حصل بعد انتهاء الحرب الباردة كان مجرّدا من المصالح السياسية والاقتصادية التي جعلته ممكنا في مكان وغير ممكن في غيرها، بدليل التدخل الأميركي لحماية الأكراد في شمال العراق بعد انتفاضة 1991، والإحجام عن التدخل في راوندا عام 1994، على الرغم من أن عدد القتلى هنا كان أكبر بكثير.
مع ذلك، استمر الزخم بشأن مبدأ التدخل الإنساني يتعاظم بعد الصومال (1992)، والبوسنة (1995)، وزائير (1996)، وكوسوفو (1999)، وبلغ الذروة مع إقرار مبدأ المسؤولية في الحماية (Responsibility To Protect) في “قمة العالم” عام 2005، حيث التزمت جميع الدول بمنع الكبائر الإنسانية الأربع: القتل الجماعي، وجرائم الحرب، والتطهير العرقي، والجرائم ضد الإنسانية. استند المبدأ المذكور إلى فكرة أن تمتع الدول بحق السيادة يتطلب منها، في المقابل، تحمّل مسؤولياتها في حماية مواطنيها من القتل والانتهاكات. المفارقة أن أول تطبيق لمبدأ “المسؤولية في الحماية” كان في دولة عربية (ليبيا). المفارقة الأكبر أن جامعة الدول العربية هي التي طلبت تفعيل هذا المبدأ، ولجأت إلى مجلس الأمن الذي اتخذ قرارا بالتدخل في ليبيا لحماية المدنيين من بطش نظام القذافي (القراران 1970 و1973).
بسبب الانقسام الدولي، وغياب الشهية في التدخل لدى الولايات المتحدة، خصوصا، أو بسبب قوة الأطراف التي تقف وراء الانتهاكات (إسرائيل في الأراضي العربية المحتلة، الصين في إقليم سينجيانغ، والهند في كشمير)، لم يطبق مبدأ المسؤولية في الحماية بعد ذلك، وتراجع النقاش في الموضوع إلى أن أعاده ما حصل في بيروت الأسبوع الماضي إلى الواجهة، إنما هذه المرة من باب عجز الدولة عن حماية مواطنيها بسبب الفساد والإهمال.
وعلى الرغم من استنكارنا توقيع بعضهم عريضة تطالب بعودة الإنتداب الفرنسي إلى لبنان، إلا أن هذا السلوك يعبر بوضوح عن انهيار كامل للثقة، ويكشف أيضا كيف أننا فشلنا ليس فقط في بناء دولنا الوطنية بعد الاستقلال، إنما أيضا كيف دمّرناها إلى درجةٍ أصبحت فيه غير قابلة للحياة. لقد عادت دول عربية عديدة إلى مرحلة ما قبل الدولة، حيث انهار النظام العام، أو يوشك أن ينهار، وباتت الناس تتوق إلى أي سلطةٍ تحفظ لها حياتها وممتلكاتها من النهب أو الدمار. تعصّب نخب الحكم العربية لمفهوم السيادة، واستخدامه رخصةً للقتل أو النهب، أدّى إلى عكس الغرض منه، وهو فقدان السيادة التي لم يعد ممكنا ممارستها والتمتع بها بلا مسؤولية أو حدود وضوابط ناظمة.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت