بدأت أخيرا الجولة الثالثة من اجتماعات اللجنة الدستورية السورية، بهيئتها المصغّرة برعاية المبعوث الأممي، غير بيدرسون. وكما كان متوقعاً، استهلّها وفد النظام بالمماطلة والتسويف، حيث أطلق الرئيس المشترك، أحمد الكزبري، على وفده الذي يرأسه تسميةً رابعةً جديدةً هي “الوفد الوطني”، مدّعياً أنه لا يمثّل الحكومة السورية، ما استدعى رئيس وفد المعارضة المشترك، هادي البحرة، للاعتراض وتسجيل نقطة نظام، طالباً الالتزام بورقة القواعد الإجرائية المتفق عليها في الجلسة الافتتاحية قبل أشهر.
اللافت في هذه الجولة هو الحضور القوي للجانب الأميركي، ممثلاً بالسفير جيمس جيفري ومعاون نائب وزير الخارجية جويل ريبورن، ففي أثناء الاجتماع المطوّل مع أعضاء الوفد الممثل لقوى الثورة والمعارضة السورية، أطلق الممثلان الأميركيان رسائل مهمة لا يمكن إغفالها. تتمثل الأولى بالتزام الأميركيين الصارم (حسب زعمهما) بعملية الانتقال السياسي في سورية وفق القرارات الأممية، مع توضيح أنّ هدف الإدارة الأميركية هو دعم جهود الشعب السوري بتغيير النظام كاملاً، وقد وصف الممثلان الوفد بأنه شرعي يمثّل الشعب السوري بأكمله، وليس فقط جمهور الثورة منه. في الثانية، تمّ التأكيد على ثبات الموقف الأميركي، مهما كانت نتائج الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. أمّا في الثالثة فقد صرّح الممثلان إنّهم يعدّون للأسد كأس السمّ الذي تجرّعه حليف والده السابق المرشد الإيراني، آية الله الخميني.
ومن الرسائل المهمة أيضاً مقارنة السفير جيفري التورّط الروسي الحالي في سورية، والذي بدأ في 30 سبتمبر/ أيلول 2015، بالتورّط السوفيتي في أفغانستان، الذي بدأ بدخول الجيش الأحمر الأربعين في 25 ديسمبر/ كانون الأول 1979، وانسحابه الإجباري والمهين الذي بدأ في 15 مايو/ أيار 1988 وانتهى في 2 فبراير/ شباط 1989. يبدو أنّ السفير أراد الإيحاء بأنّ السياسة الأميركية في سورية تعيد إنتاج أسلوب الاستنزاف الذي أدّى، أو ساهم بشكل فعّال، بتسريع عملية انهيار الاتحاد السوفيتي السابق. وفيما يخصّ الجانب الإيراني ودوره في سورية، فكان كلام الممثليْن الأميركيين واضحاً للغاية، من حيث الاستمرار بمحاربة هذا التغلغل بكل الوسائل المتاحة، وكانت الإشارة الأقوى إنّ قوات النظام لن تكون في مأمن من الاستهداف، طالما سمحت للإيرانيين ومليشياتهم بالتستر تحت يافطات الجيش السوري وقواته الأمنية والعسكرية.
بالعودة أعواما، نستذكر مقولة وزير الخارجيّة السورية، وليد المعلّم، عندما محا أوروبا من خريطة العالم، إنّ “على المعارضة أن تتعلّم السباحة، لأننا سنغرقها بالتفاصيل”، وها هو اليوم يرسل إلى جنيف وفداً فيه ثلاثة من أصل 15 مصابين بفيروس كورونا، على الرغم من علمه المسبق بإصابتهم. على ما قالت مصادر وفد المعارضة السورية لوكالة الأناضول التي أفادت أن السلطات السويسرية وضعت أربعة من هذا الوفد في العزل الصحي في الفندق. والحقيقة أنّ توقّع عدم قيام النظام السوري بهذا الأمر هو المستهجن، لا العكس، فالطريقة التي تعمل بها منظومة الإدارة الفعليّة في الدولة السورية منذ عقود، أي النظام الأمني، بسيطة جداً على الرغم من كلّ التعقيد الذي تبدو عليه. القرار بكلّ وضوح في يد شخص واحد، وهذا يفوّض سلطاته لمجموعة محددة من قادة الأجهزة الأمنية، يتميّزون بالولاء المطلق، وبالرقابة الذاتية على أنفسهم، وبالرقابة والتجسّس على بعضهم.
كان حافظ الأسد يرسم الخطوط العريضة لعمل جميع أجهزة المخابرات والجيش والوزارات والإدارات، ثم يعطي لكلّ جهة صلاحية التنفيذ المقيّد والمشروط، وكان يراقب كل شاردة وكلّ واردة عبر التقارير الأمنية التي تأتيه من عدّة مصادر يومياً. وعندما ورث بشّار الجمهوريّة من والده، كان موقع رئاسة الجمهورية قويّاً إلى درجة فائقة، بحيث بات بشّار، عديم الخبرة والاستحقاق، قادراً بكلّ سهولة على إدارة البلاد نحو الهاوية. كان قدر سورية وأهلها معلّقاً بين أيدي مجموعة من العسكر المراهقين منذ الانقلاب الأول لحسني الزعيم، لكنّ الكارثة الكبرى بدأت بتوطيد حافظ الأسد أركان حكم الفرد الإله منذ انقلابه عام 1970. منذ ذلك التاريخ، لم تعد سورية مستقلّة، بل باتت مرتبطة بشكل لا تنفصم عراه عن الأسد، لم تعد سورية فقط، بل باتت سورية الأسد.
ها هي سورية اليوم تصدّر إلى العالم صورة الخراب والدمار، والاستهتار بأبسط القيم الإنسانية، إنّها سورية الأسد وليست سورية العظيمة، كما قالت في منفاها القسري ذات يوم، شهيدة الموقف الفنّانة الراحلة مي سكاف. لم يكن ليخفى على أجهزة الأمن السورية وجود إصابات بين أعضاء الوفد، ومن يعتقد ذلك يكون ممن لا يعرفون شيئاً عن سورية، بل أغلب الظنّ أنّ النظام استعمل هذا الوفد مفخخة بشرية لنسف الجهود الدولية لتحريك الملف السوري.
لقد استشعر النظام السوري الخطر من الاتفاقات المبدئية بين تركيا ومصر في ليبيا، وهذا يدلّ على رغبة اللاعبين الكبار بالتهدئة لا بالتصعيد. من هنا، يمكن قراءة بعض الإشارات التي تدلّ على ضيق الروس ذرعاً بتصرّفات حليفهم في سورية، خصوصا وأنّ بوتين وترامب يسعيان، وكلّ منهما لغاية في نفسه، لإحداث تغيير ما في ملفات خارجية عديدة. وكما أنّ اتفاق التطبيع الإسرائيلي الإماراتي لم يكن بعيداً عن أجواء الانتخابات الأميركية، فإنّ حضور وفد النظام السوري إلى جنيف لم يكن بعيداً عن الضغوط الروسية المرتبطة بهذه الانتخابات أيضاً، فبوتين يعرف أنّ نجاح الديمقراطيين سيعقّد مهمته في سورية، بعكس الحال فيما لو بقي ترامب في البيت الأبيض.
إذن، استخدم الأسد فيروس كورونا في حربه ضدّ الاستحقاقات المقبلة، لكنّه لن يستطيع تأجيلها إلى الأبد، فلكلّ أزمة نهاية، ويبدو أنّ نهاية الأسد قد اقتربت أكثر مما نتصوّر، وقد تكون قبل نهاية الفيروس ذاته.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت