عن براغماتية الأتراك
يُنسب للمستشار الألماني أوتوفون بسمارك (1871 – 1890) وصفه السياسة بأنها “فن الممكن”. ولهذا السبب تحديدًا، تعد البراغماتية صفة ملازمة لها، إذ لا تعود السياسة بدونها سياسة، بل أيديولوجيا تعجز، في أحيان كثيرة، عن فهم الواقع والتعامل معه. بهذا المعنى، لا توجد فروق جوهرية في ممارسة السياسة بين مجتمعات ديمقراطية أو غير ديمقراطية، محافظة أو ليبرالية، يحكمها رجال دين أو لا دينيون. ولا يرتبط هذا الأمر بمعايير، أو أحكام قيمة، من قبيل الخطأ والصواب، على الرغم من أننا نميل عموما إلى الحكم على السياسة من هذا الباب، أي من باب مطابقتها الأخلاق (ethics). فالمعيار الرئيس هنا، وربما الوحيد، هو معيار المصالح، سواء أكانت مرتبطة بحكام أفراد، أو بدول يمثلونها أو يزعمون تمثيلها. ويمكن الإشارة إلى أمثلة كثيرة على هذه النزعة البراغماتية المتأصلة في الممارسة السياسية من واقع منطقتنا وخارجها، لكن المثال الذي يلفت الانتباه أكثر من غيره، ربما، هو تركيا.
لا يمكن لأي متابع للشأن التركي إلا أن يلحظ جملة من الانعطافات، الحادّة أحيانا، في سياسة تركيا الخارجية تجاه قضايا إقليمية ودولية عديدة، خصوصا خلال العقد الأخير. ويرجع السبب في ذلك، على الأرجح، إلى أنها ديمقراطية (رغم كل الانتقادات التي توجه لها من هذا الباب) تلعب العوامل الداخلية دورا مهما في رسم سياستها الخارجية وتحديدها، خصوصا عندما تترك تداعيات على مصالح الناخبين وأوضاعهم الاقتصادية والمعيشية. لكن الأهم ربما أن السلوك السياسي التركي محكوم بهاجس الوقوف في الجانب الصحيح (الرابح) من أي صراع. والأكيد أن هذه النزعة البراغماتية مرتبطة بتجربة تركيا التاريخية المريرة، وسلسلة القرارات “الخاطئة” التي اتخذتها في مراحل مفصلية خلال القرن الماضي، ففي عام 1914 قررت تركيا دخول الحرب العالمية الأولى، ووقفت على الجانب الخطأ (الخاسر) فيها (مع النمسا وألمانيا) وقد كلف هذا القرار تركيا إمبراطوريتها، وكاد يمزّقها، حيث حاول المنتصرون في الحرب تقاسمها في معاهدة سيفر عام 1920، كما تقاسموا المشرق العربي في اتفاقية سايكس بيكو، لولا أن تدارك الأتراك أنفسهم في اللحظة الأخيرة.
في الحرب العالمية الثانية، ارتكبت تركيا خطأ آخر لا يقل أهمية، هذه المرّة بامتناعها عن دخول الحرب، ولو أنها ناصرت الحلفاء لكانت أحد المستفيدين من مشروع مارشال الأميركي، ولربما تحولت بفضل ذلك إلى واحدة من الاقتصادات الأوروبية المتقدّمة. صحيح أن تركيا تداركت خطأها عندما انضمت الى حلف الناتو عام 1952، وأصبحت جزءا من المعسكر الغربي، لكن الفرصة كانت قد فاتت. ارتكبت تركيا خطأ ثالثا عندما أدارت ظهرها للعالم العربي بعد الحرب العالمية الثانية وتعلقت أنظارها بالغرب، يراودها حلم الانضمام الى أوروبا، وكانت النتيجة أنها فقدت قدرتها على التأثير في العالم العربي من دون أن تحقق حلمها الأوروبي. صحيح أن توجهات تركيا تغيرت بهذا الشأن مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002، لكن إيران كانت قد نجحت في بناء قوس نفوذٍ قد يهدّد اكتماله بفصل تركيا كليا عن العالم العربي.
هذه التجارب التاريخية تتحكّم بوضوح في سلوك تركيا وسياستها الخارجية عموما، وفي علاقتها بمحيطها القريب خصوصا، حيث الإصرار على التأقلم بالسرعة والعمق المطلوبين للحفاظ على المصالح التركية وحمايتها. كان لافتًا مثلاً التحوّل السريع والكبير في الموقف التركي من ثورة فبراير 2011 في ليبيا، إذ عارضتها تركيا أول الأمر، كما عارضت التدخل الغربي لإطاحة معمّر القذافي، لكنها سرعان ما انتقلت إلى المعسكر الآخر مع اتّضاح نتيجة الصراع. في سورية أيضًا، لم تتأخّر تركيا عن التأقلم مع التدخل العسكري الروسي، بعد أن قرّرت أول الأمر مواجهته، عندما أسقطت الطائرة الروسية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، لكن موقفها تغير بسرعة بعد ذلك، مع اتضاح غياب الدعم الأميركي لها، فدخلت في لعبة تقاسم مناطق النفوذ مع روسيا في سورية، بدلا من الدخول في مواجهة خاسرة فيها. يسري الأمر نفسه على التغيرات الأخيرة في السياسة التركية بخصوص العلاقة مع مصر والإمارات والسعودية وغيرها. سؤال ما إذا كان هذا السلوك صحيحا أم خاطئا غير ذي صلة بالموضوع هنا، والخوض فيه يثير فقط غبارًا.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت