تحلّ الذكرى السنوية العاشرة لاندلاع الثورة السورية من دون تلمس أي تغيير حقيقي في الوضع السوري السياسي، ونسبيا الميداني، سوى تراجع واضح في حدّة الحملات العسكرية وتواترها، وبالتالي في معدلات القتل والإجرام اليومية. في حين تتسارع الأخبار والتسريبات الشعبية المعبّرة عن صدمة الشارع السوري وخيبة أمله من جميع الأطراف والوسائل التي عوّل على قدرتها في تجاوز الأزمة والصعاب، ومن العبور به وبالبلد إلى برّ الأمان، وهو ما يشمل الكتل الشعبية خارج سورية وداخلها، تماما كما يشمل جمهور الثورة ومناصري النظام على حد سواء. وطبعا، لا يعني ذلك توافق السوريين على مجمل الحل، أو حتى مساره وشكله، بقدر ما يعكس إدراكهم خطأ التعويل على بعض المقولات العبثية التي تم تداولها كثيرا منذ بدايات الثورة من النظام السوري ونظيره في المعارضة الرسمية، مثل الحسم العسكري والتعويل على الحل الخارجي، أميركيا، روسيا، تركيا، إيرانيا.
إذ نجد داخل مناطق سيطرة النظام السوري العديد من الكوارث التي تضرب المدنيين تحديدا، من هشاشة النظام الصحي، سيما بما يخص التصدي لتبعات كورونا، إلى انهيار أو تدهور الوضع الاقتصادي وقيمة العملة السورية، ما ينعكس على ظروف السوريين المعيشية، ويصعب أزماتهم اليومية، ويرفع من معدلات الخطر. الأمر الذي ينذر بأن يصيب خطر الموت جوعا أو مرضا الغالبية العظمى من المدنيين القابعين تحت خط الفقر، والفاقدين أبسط مقومات الحياة، وكأن الموت مصرٌّ على ملاحقة وزيادة حصد السوريين وزيادتها، على الرغم من تراجع حدّة المعارك العسكرية وتوترها، حتى بات تغني النظام بنجاحيه، العسكري والسياسي، في حسم الأمور، والانتصار على المؤامرة الكونية التي تصدّى لها؛ وفق مزاعمه؛ فاقداً أي معنى، حتى في الأوساط التي تؤيده. بل يبدو نجاح النظام المزعوم بمثابة الكارثة والصاعقة التي تضرب الشارع السوري يوميا، لتحاصره وتخنقه اقتصاديا ومعيشيا وصحيا، ما دفع كثيرين من الباقين داخل مناطق النظام إلى إعلاء صوت التهكّم على الأوضاع، وتحميل النظام مسؤوليتها، وصولا إلى بعض الأصوات التي تعبر عن نقمتها من نجاح النظام عسكريا، وتمنّيها عودة الأوضاع إلى ما قبل انتصار النظام المزعوم، وكأنها تربط نجاح النظام عسكريا بفشله وطنيا واقتصاديا وسياسيا.
في المقابل، نجد على صعيد الوسط المعارض تناميا كبيرا في مشاعر الغضب والاحتقان من فشل قوى المعارضة الرسمية في إدارة الملفات العسكرية والسياسية والمعيشية، التي طاولت السوريين داخل بلدهم وخارجه، وعلى جميع الأصعدة، حتى تم حصر القوى المعارضة العسكرية والسياسية في مناطق جغرافية محدودة، غالبيتها في محيط محافظة إدلب، مع توارد خطر تقلصها بشكل دوري، فضلا عن الفشل في التأثير أو حتى التواصل مع القوى المعارضة المسيطرة على محافظة درعا، والاتفاق على آلية تنسيقية وتنظيمية واحدة، مرورا بأزمة اللاجئين على الحدود اللبنانية والأردنية والتركية، على الرغم من تغنّي المعارضة الرسمية بمتانة العلاقة (التبعية) مع تركيا، وأخيرا اقتصاديا من خلال فشل المعارضة في إيجاد حلول لأي من الأزمات الاقتصادية التي يعاني منها الشعب السوري في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، كما يحدث في إدلب ومحيطها.
وعليه، فشل النظام، كما فشلت المعارضة الرسمية، في تحقيق أي إنجاز يسهل على الشارع السوري تلمسه والإحساس به والشعور بأهميته، بعيدا عن الخطابات الرنانة المحتفلة بنصر عسكري أو سياسي أو إعلامي وهمي هنا وهناك، فقد عجز النظام والمعارضة عن تحقيق انتصار عسكري حقيقي من دون تدخل خارجي. كما فشلا في إدارة شؤون المناطق الخاضعة لهما اقتصاديا وثقافيا وصحيا. وكذلك فشلا في تحقيق مطالب الثورة الأساسية المتمثلة في الحرية والكرامة والعدالة والمساواة (ادّعى النظام، منذ بدايات الثورة، تمسّكه بهذه الشعارات ووعد مناصريه بتحقيقها بعد التغلب على المؤامرة الكونية!)، وثمّة مئات الأمثلة على هذا الفشل، من دمشق إلى غوطة دمشق وصولا إلى القامشلي وإدلب ودرعا واللاذقية وغيرهم. وهو ما دفع كثيرين إلى التعويل على المصالح الدولية في سورية، التي قد تفرض حلا سياسيا دوليا بين ليلة وضحاها، لتمرّ الأيام والأشهر والاجتماعات والمبادرات والتوافقات والاختلافات، من دون أي تغيير حقيقي، سوى هدن هشّة قابلة للانهيار بين فينة وأخرى. الأمر الذي دفع جمهوري النظام والثورة إلى فهم مدى عبثية هذه الاجتماعات ومحدودية تأثيرها، تماما كما أدركوا أو شكّكوا بنية الأطراف الدولية المنخرطة في الشأن السوري في حل الأزمة السورية، عبر فرض حل سياسي كامل، أو حتى عبر تعويم النظام وإنعاشه. فالتوجه الروسي مبهم بين التمسّك بالنظام ومراعاة المصالح التركية والإيرانية، والأهم التركية والإسرائيلية من ناحية، وبين تعارض مصالحه مع كل منهم، بما فيهم نظام الأسد وحليفه الإيراني من ناحية ثانية. وعليه يمكن القياس بما يخص التوازنات المكبلة لجميع الأطراف كذلك. ما ساهم في نفور السوريين من متابعة حيثيات الحلول الدولية بصورة شبه كلية، تصل إلى حد المقاطعة الكاملة، إذا ما استثنيا بعض الحالات النادرة التي تعكس مدى استفزاز مشاعر السوريين من عبثية الاجتماعات واللقاءات والرغبات الدولية، ومن عجز الأطراف السورية على تلمّس حل سوري مكتمل أو شبه مكتمل.
قد تكون الخلاصات هذه من أهم ما حصل مع الشعب السوري منذ اندلاع الثورة، كونها مقدّمة لا بد منها من أجل الخروج من حالة الاستعصاء السورية، وبغرض كسر الحواجز المصطنعة المزروعة بين مكونات الشعب السوري، وبهدف كنس أوهام التعلق بالخارج أيا يكن. لأنها بوابة عودة التواصل الشعبي السوري – السوري، الباحث عن حل وطني يضمن لجميع السوريين العدالة والحرية والمساواة والكرامة، على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بعيدا عن لغة القوة والقهر والقتل، أي من دون إكراه أو فرض، أي من خلال الاحتكام إلى لغة الحوار والمنطق والالتزام برأي الغالبية، من دون إلغاء الآخر ومن دون التقليل من حق الأقلية في التحوّل إلى أكثرية لاحقا. إذ يدرك الشعب السوري اليوم، بجميع أطيافه وتنوعاته الفكرية والعقائدية والجغرافية، أن لا وجود لحل خارجي أو عسكري في المديين، القريب والمتوسط، وبأننا في خضم استعصاء حقيقي، يفاقم، يوما بعد يوم، من سوء أحوال البلد والشعب على حد سواء، وهو ما يتطلب فعلا وممارسة جديدين يقطعان مع الممارسة التي فرضها الأسد منذ انقلابه في 1970، أو من تلك التي طبقتها قوى المعارضة المسيطرة والمدعومة خارجيا منذ أشهر الحركة الثورية الأولى.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت