يتفق المراقبون للشأن السياسي على أن التوتر بين روسيا وتركيا في إدلب (السورية) ليس مفاجئا، بل متوقع، ليس بسبب رغبة روسيا في بسط سيطرة النظام السوري على كامل الأراضي فحسب، بل بسبب التباين الاستراتيجي بين الدولتين داخل الساحة السورية وخارجها.
حتى الأمس القريب، كان البلدان يقعان في فضاءين استراتيجيين مختلفين، على المستوى الأيديولوجي والسياسي والاقتصادي، غير أن للسياسة أحكامها المتغيرة، فعدو الأمس قد يصبح صديق اليوم. ودفع الواقع السوري المعقد الدولتين إلى البحث عن نقطة التقاء في مشهد سوريالي لا يمكن الاعتماد عليه، فنشأت بينهما علاقةٌ يمكن وصفها بأنها أقل من تحالف استراتيجي وأكثر من تفاهم.
ويعبر التقارب الروسي ـ التركي في سورية عن تقارب أوسع، يبدو البلدان بحاجة إليه كلٌّ لأسبابه، وعلى سبيل المثال، لم يجد مشروع السيل التركي طريقه إلى النجاح بحكم الجغرافيا التركية فحسب، بل بحكم رؤى استراتيجية في العاصمتين لما ستكون عليه العلاقة بينهما مستقبلا.
ومع ذلك، فبين الدولتين خلافات كبيرة على المستوى الاستراتيجي، بشقيه الإقليمي والدولي، ويمكن النظر إلى التعاون/ الصراع في إدلب من خلال بعدين اثنين:
إقليمي، مرتبط بمفاعيل الترتيبات العسكرية في الجغرافيا السورية، وفي هذا البعد ثمّة تفاهمات بين الدولتين، وثمّة خلافات حول السيطرة على بعض المناطق في محافظة إدلب. دولي، أشمل من الجغرافيا السورية، ويمكن تلمس أبعاده في أوكرانيا مع زيارة الرئيس التركي، أردوغان، إليها أخيرا، والتوجه التركي إلى البحر المتوسط والوصول إلى الشاطئ الليبي، وقبلها التلاقي التركي ـ الأميركي في شرق الفرات، وهذا البعد هو الأهم، كونه يحدّد مسار العلاقات بين الجانبين، وتجلياتها الإقليمية.
مشكلة روسيا أنها لم تنظر إلى تركيا من خلال موقعها الاستراتيجي في المنطقة، بقدر ما تنظر إليها من البوابة السورية فقط. ومن هنا، اعتقد الروس أن السماح للأتراك بالبقاء في إدلب، والحصول على أراضٍ في ريف حلب الشمالي الغربي كفيل بإبعادهم عن الولايات المتحدة وأوروبا. ولكن صناع القرار في الكرملين لم يدركوا أن موقع تركيا في قلب العالم يضعها على تماسّ مع قارات ثلاث، ما يجعل خياراتها واسعة جدا، بحيث يصعب اختزالها في الشرق وحده، أو الغرب وحده. ومع أن الملف السوري جزءٌ من منظومة أوسع، تحدد طبيعة العلاقات بينهما، إلا أن اختلاف المصالح بدا واضحا، وأن المسألة ليست مجرّد تفاهم مرحلي حيال مناطق معينة يمكن الانقلاب عليها.
من هنا، كانت تصريحات الرئيس التركي في البرلمان شديدة القوة، حين قال “أي كفاح نقوم به اليوم في سورية سنضطر للقيام به لاحقا في تركيا.. وإذا تركنا المبادرة للنظام السوري والأنظمة الداعمة له، فلن ترتاح تركيا.. وإن تركيا مستعدة لدفع الثمن في سورية”. وفي المقابل، بدا حريصا على تمرير الرسائل، فتحدّث، في سابقة من نوعها، عن ضرورة لجم الجماعات الراديكالية، وإجبارها على الالتزام بوقف إطلاق النار، وهذا التصريح يعتبر الأول من نوعه. وقد عاد وأكد هذا الموقف وزير الدفاع، خلوصي أكار، حين أعلن أن تركيا ستتخذ كل التدابير اللازمة لإرغام الأطراف، غير الممتثلة لوقف إطلاق النار في إدلب، على الالتزام به، بما في ذلك الجماعات الراديكالية. وتوحي هذه التصريحات بأن تركيا ملتزمة باتفاق سوتشي، وترغب به، لكنها في المقابل مستعدة للمضي على الصعيد العسكري، إذا لم تلتزم الأطراف الأخرى بذلك.
يبدو أن الروس قد فهموا جدّية الموقف التركي، فبعد المحادثة الهاتفية بين بوتين وأردوغان، أعلن الكرملين أن المطلوب هو تنفيذ اتفاق سوتشي، بمعنى أن روسيا لن تذهب إلى ما هو أبعد من هذا الاتفاق. وقد تم التعبير عن هذا الموقف أيضا بإعلان وزارة الدفاع الروسية مساء الأربعاء أن السيطرة على الطريق السريع دمشق ـ حلب M5 سمح بإنشاء المنطقة الآمنة المنصوص عليها في المذكرة الروسية التركية. والأهم أن بيانا مشتركا غريبا صدر عن رئاستي الأركان الروسية والسورية، أكد أن “عمليات الجيس السوري كانت ردا على استفزازات المسلحين”، ما يعني أن العمليات العسكرية ستتوقف، حالما تنتهي هذه الاستفزازات، ويتم تنفيذ بنود اتفاق سوتشي. وتفيد هذه التصريحات بأن الأمور لن تذهب نحو التصعيد العسكري، وأن ثمة ترتيبات جديدة ستظهر مع اللقاء التركي ـ الروسي المرتقب في موسكو، باتجاه اتفاق سوتشي جديد، يأخذ بالاعتبار المتغيرات على الأرض.
ولكن الخلاف يبقى كبيرا بين الجانبين، فالروس يريدون السيطرة على كامل الطرق الدولي، في حين تقبل تركيا بسيطرة النظام على الطريق الدولي M5، لكنها لن تقبل بالسيطرة على الطريق M4 لأنه يخترق عمق المحافظة، ويصل إلى مدينة إدلب. كما أن الأتراك يفضلون أن تكون السيطرة على الطريق الدولي M5 (سيطرت عليه قوات النظام) تحت إشراف روسي تركي مشترك، وهذا يعني أن هذا الطريق سيكون وفق ذلك هو المنطقة العازلة، أما وفق ما هو قائم الآن، فإن المنطقة العازلة ستكون غرب الطريق بنحو عشرين كيلومترا، وهذا يجعل فصائل المعارضة في إدلب وشمال سراقب من دون عمق استراتيجي.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت