لعله من الطبيعي أن يتّسم الكثير من ردود الأفعال على خطوة دولة الإمارات نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني ، بمزيد من الصخب العاطفي والزخم الشعبي، لا بل لعله من الطبيعي أيضاً أن تشغل هذه المسألة جميع ميادين الرأي العام بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي، ولئن كان الكثير ينكر اهتمام الأنظمة الحاكمة أو امتلاكها لنسبة ضئيلة من الحرص على القضية الفلسطينية، بل ربما كان من الصحيح أن قضية فلسطين أضحت منذ زمن ليس بالقريب ورقة استثمار أو اعتياش لسلطات وأنظمة عربية هي في غاية القذارة، إلّا أن أحداً ليس بإمكانه أن ينكر أو يتجاهل تجذّر قضيّة فلسطين في الوجدان الشعبي العربي والإسلامي، ولا أن ينكر كذلك أن هذا التجذّر والامتداد في اللاشعور الجمعي للعرب والمسلمين، إنما يستمدّ فحواه الحقيقي من عدالة القضية الفلسطينية أولاً، تلك العدالة التي أقرّ بها العالم أجمع، بما فيهم الداعمون والمقرّبون لإسرائيل، أضف إلى ذلك أن فصول المأساة الفلسطينية لا تكمن في التاريخ السحيق، بل إن الكثير ممن شهد أو عايش بداية نكبة عام 1948، ما يزال يشهد تتالي فصول المأساة التي ما تزال مستمرة حتى الآن.
ولعلّه من الطبيعي أيضاً ان يكون الكلام السابق مجافياً أو غير متّسق مع منحى السياسات الرسمية للأنظمة وبعض القوى الأخرى التي توجب النظر إلى موازين القوى وتبدّل المصالح وضرورة انتهاج سياسات واقعية بعيدة عن العواطف والمشاعر، باعتبار السياسة فنَّ الممكن، توجهها المصالح المُتاحة أو الراهنة وليس الأخلاق والمشاعر، وبالتالي نجد أن المشهد لم يعد مجالاً لخلاف بين وجهات نظر بخصوص قضية محدّدة فحسب، بل هو صراع قيمي بدأت تجلياته تتبلور من خلال مواقف أخرى لدولة الإمارات، موازية، بل متداخلة مع موقفها من الكيان الإسرائيلي.
لعلّ مجمل الذرائع التي ساقها، ويسوّقها مسؤولون إماراتيون لتبرير خطوتهم التطبيعية كانت مُتوقعة، بل يمكن للمرء أن يعرفها قبل أن ينطقوا بها، ذلك أن منطق التسويات مع إسرائيل أضحى له معجم خاص ، ومسوّغات مُشتركة تتناسب مع الظروف والمعطيات، كما أضحى هذا المنطق هو العلامة الدالّة التي تميّز تياراً عريضاً من السياسيين ( حكّاماً ووزراء وشخصيات وأحزاباً) باعتبارهم أصحاب نزعة عقلانية معتدلة، هي الأقدر دوماً – بحكم ما تحوزه من رجاحة في العقل وحرص على مصالح شعوبها – على اتخاذ القرار الصحيح، وذلك بمقابل تيار ثانٍ، يصفه أصحاب التيار الأول بأنه غوغائي شعبوي، يتعاطى السياسة من خلال منظومة قيمية تقليدية لم تعد مؤهلة للتعاطي مع قيم العصر ومستجدّاته، بل باتت عاجزة عن اللحاق بالتطور الحضاري الذي تحمل إسرائيل أرفع أوسمته، باعتبارها الكيان الأكثر حيازة للحداثة والتنمية وفقاً لمسؤولي دولة الإمارات. وفي ضوء ما تقدّم يمكن لنا أن نعي الكثير مما سيقال، بهدف تسويغ أو شرعنة قرارٍ اتخذته سلطة حاكمة، ولكن ما يعنينا من هذا المنطق هو شطره الأخلاقي الذي تحرص هذه المقالة أن تبقى في إطاره، وبالتالي يمكن النظر إلى الإصرار الكبير الذي تبديه دولة الإمارات على أن تكون خطوتها بالتطبيع مع إسرائيل مقرونة بخطوات مماثلة تجاه نظام الأسد، ففضلاً عن فتح الإمارات لسفارتها في دمشق أواخر العام 2019 ، فقد أكّد مسؤول إماراتي رفيع من خلال شريط فيديو واسع الانتشار، أنه ليس دولة الإمارات فقط، وإنما مجمل دول الخليج أخطأت بمقاطعتها لنظام الأسد إبان انطلاق الثورة السورية عام 2011 ، بل هو ينحو باللائمة على دولة قطر التي جرّت الموقف الخليجي باتجاه غير صحيح وفقاً لزعمه، كما يشيد المسؤول الإماراتي ببشار الأسد باعتباره حاول منذ وصوله السلطة، البدء بعملية التنمية والتطوير، ما هو واضح أن الندم الإماراتي على مقاطعة إسرائيل طوال عقود سابقة، والإقدام على إبرام اتفاقية سلام معها هو كاعتذار وتصحيح لموقف خاطئ سابقاً، فإن هذا السلوك يجب أن يكون موازياً لسلوك مماثل حيال نظام الأسد، والسؤال هو: إذا كانت إسرائيل هي الضامن الموثوق به لديمومة نظام الحكم في الإمارات والحفاظ على راحة بال أمرائها الذين ربما اعتقدوا أن سطوة الصهاينة هي الوحيدة القادرة على تعزيز الطمأنينة لدى الأنظمة العربية الحاكمة، فما الذي يمكن أن يقدّمه نظام الأسد لدولة الإمارات؟ هل لأن نظام الأسد نفسه استجار بإسرائيل واستعطفها في بداية انطلاق الثورة كي تؤازره في قتل السوريين؟ أم أن القاسم المشترك بين إسرائيل ونظام الأسد هو أن كليهما كيان يتقوّم على جماجم وأرواح الملايين من البشر؟ علماً أنه لا أحد يتجاهل أو ينكر الإبادة التي يمارسها بشار الأسد وداعموه على الشعب السوري بأقذر الأسلحة وأشدّها شناعةً وفتكاً، ومع ذلك تصرّ دولة الإمارات على الاقتراب أكثر من نظام دمشق، فهل لاعتقاد أمرائها بأن طمأنينتهم وديمومة الحفاظ على سلامة إماراتهم مرهونة بإبادة السوريين كما هي مرهونة بإبادة الفلسطينيين في الوقت ذاته؟ الجواب عن هذه التساؤلات لا أعتقده يكمن في حسابات المصالح أو جدوى السياسات البراغماتية التي يحاول البعض الالتحاف بها بهدف التبرير والتسويغ، بقدر ما يكمن في الانحياز الكلّي والمطلق إلى منظومة قيمية لا تتيح لمعتنقيها مزيداً من حرية الانتقاء، فالوقوف إلى جانب حق الشعوب المقهورة في استرداد حقوقها ودعم نضالها كي تعيش بحرية، واحترام أمنها ومقدّراتها وخياراتها، وكذلك الانحياز إلى مبدأ العدالة وكرامة الكائن البشري، هي كلٌّ متكامل لا يمكن تجزئته، تماماً كما الانحياز إلى منظومة الطغيان والتسلّط واستباحة الحريات والدماء، هي أيضاً انتماء غير قابل للتطعيم أو التنوّع، إذ ليس من الصحيح ولا من المعقول أن تدّعي مناصرة السوريين في التحرر من العبودية والقهر وإيقاف الإبادة البشرية التي يمارسها الأسد وأعوانه، وفي الوقت ذاته تبرم اتفاق سلام وصداقة مع إسرائيل التي ما تزال تمارس بحق الشعب الفلسطيني كلَّ أشكال الاستئصال والتوحّش، وبناء عليه، فإن الانعطافة الإماراتية تجاه نظام دمشق والمديح المبطّن لبشار الأسد، إنما يجسّد الانسجام الكامل، بل الافتضاح الكلّي للرؤية الإماراتية التي لا تتجاوز – في جميع الأحوال – مصالحها الأمنية السلطوية.
لعلنا لسنا بحاجة للقول: إن معظم الأنظمة العربية، ودول الخليج على وجه الخصوص، لا تملك سياسات أمن وطني منبثقة من مصالحها كدول، بل ذات نظام أمني مُستعار تحاول استجداءه من دول عظمى، وبالتالي من البديهي أن تكون سياساتها الأمنية، أي الأمن الذي يحافظ عن السلطة ويضمن ديمومتها، مرهوناً ، بل خادماً لسياسات الدول الصانعة والمصدّرة له، وعلى ضوء ذلك يمكن فهم التوجّه الإماراتي الذي يتم استثماره إسرائيلياً وأمريكياً حتى في السياسات الداخلية كمسألة الانتخابات الرئاسية مثلاً.
على أيّة حال، فإن الحيثيات السياسية للتقارب الإماراتي الإسرائيلي عديدة ومتشعبة، ولا تغيب عنها تداعيات النزاع القطري الإماراتي، وانخراط السعودية والإمارات في مواجهة النفوذ التركي في سوريا وأمور أخرى لا توجب مزيداً من التفصيل، إلّا أن تلك الحيثيات بمجملها تتمحور حول هدف مركزي هو الحفاظ على السلطة وضمانة استمرارها بعيداً عما يهدّدها من مخاطر إقليمية أو دولية، هل سيكون ذلك – إن تحقق – على حساب قضايانا الوطنية؟ بكل تأكيد نعم، ولكن وعينا الصحيح لأي خطر هو الشرط الأساس لمقاومته.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت