سعى إيران للخروج من عزلتها الإقليمية، بعد مراجعة عواصم ودول عديدة مواقفها وسياساتها حيالها. وتشعر طهران بأنها ستكون أول المستهدفين في هذا التحوّل الذي قد يقود إلى تنسيق عربي تركي إسرائيلي بتطلعات جديدة مغايرة في التعامل مع الملفات الساخنة في الإقليم. أكثر ما يقلقها هو جولة الرئيس الأميركي، جو بايدن، وأهدافها ونتائجها التي قد تكون هي أول من يدفع الثمن فيها. ولذلك هي تسعى إلى المواجهة والرد بما تملكه من أدوات ووسائل أمنية وسياسية واقتصادية لحماية نفوذها في بقع رمادية، تداخلت فيها مصالحها مع القوى الثلاث الإقليمية الفاعلة الأخرى، ومن بينها المشاهد، السوري والعراقي واليمني والخليجي. التقارب التركي السعودي والتركي الإسرائيلي واحتمالات ارتداداته على مصالح طهران ونفوذها في سورية هو ما دفعها إلى إطلاق استراتيجية التفاف سريع ومبكّر، يذكّر الجميع بحصّتها، وتحديدا بايدن، قبل دخوله في أي صفقاتٍ يحاول عقدها مع دول المنطقة على حسابها.
عندما كنّا في الداخل التركي نناقش ارتدادات التقارب التركي الإسرائيلي أخيرا في مواجهة خلايا إيرانية تتحرك في المدن التركية، وتهدّد أرواح السياح الإسرائيليين، واستعدادات العملية العسكرية الخامسة التي قال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إنها ستكون مختلفة عن العمليات السابقة من حيث الحجم والمساحة، ونعمل على تحليل أسباب “التحوّل الإيجابي” في الموقف الإيراني حيال العملية التركية المرتقبة، دخل وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، على الخط بشكل مفاجئ، وأعلن أن أحد أهداف زيارته دمشق هو “تحسين العلاقات بين سورية وتركيا”، موضحا أن بلاده “ستتحرّك لمنع اشتعال أزمات جديدة في المنطقة”، ومذكّرا أنه يقصد العاصمة السورية بعد أيام فقط على لقائه القيادات التركية في أنقرة.
يأتي عبد اللهيان إلى تركيا أياما بعد زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي، يئير لبيد، التي توّجت بمصالحة وتطبيع جديد، واستعدادات للتنسيق في التعامل مع ملفات إقليمية، فمن حق طهران أن تقلق، ومن حق وزير خارجيتها أن يقول “أمن تركيا من أمن إيران”، وأن طهران “لا تُكنُّ سوى التمنّيات الطيبة للمنطقة، ولتركيا الصديقة والشقيقة”.
منحت دمشق الضوء الأخضر لإيران كي تقوم بما يدور في ذهنها سوريا، فهذه الزيارة، كما يقول وزير الخارجية السوري، فيصل المقداد، “مهمة جداً، وتأتي بعد تطوّرات محلية وإقليمية ودولية كثيرة، ونحن دخلنا مرحلة جديدة في المجالات كلها”. لكننا لا نعرف الكثير عن استعداد موسكو، الشريك الثالث لتبنّي التحرّك الإيراني، وفتح الطريق أمامه، وما الذي ستجنيه هي من ذلك. هل سنتمسّك بمعادلة أن التحرّك الإيراني يتم بضوء أخضر روسي، طالما أنه يخدم أهداف موسكو السورية؟
فاجأت أنباء “الوساطة” الإيرانية أنقرة، لأن قيادات حزب العدالة والتنمية، الحاكم في تركيا، كانت تركز أكثر على رد إيراني في سورية باتجاه التقريب والتوسّط بين دمشق و”قوات سوريا الديمقراطية”، وإقناعهما بالتعاون والتنسيق في معركة مواجهة القوات التركية وحلفائها في الجيش الوطني. لذلك لن يستبعد احتمال أن يقول المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زادة، في الوساطة السورية، كلاما مشابها لما قاله لنا في الملف اليمني في مطلع شهر يونيو/ حزيران المنصرم، ملخصه أن بلاده لطالما اعتبرت الحل السياسي الطريق الوحيد لإنهاء الأزمة في سورية، انطلاقا من رؤيتها الاستراتيجية وسياساتها المبدئية التي استخدمت فيها كل طاقتها لتحقيق السلام العادل على أساس حقائق البلاد.
سبق وحاولت إيران الدخول على خط الوساطة بين أنقرة ودمشق بشكل معلن أكثر من مرة. في إبريل/ نيسان 2019، حيث تحرّك وزير الخارجية الإيراني وقتها، جواد ظريف، بهذا الاتجاه من دون نتيجة. ثم محاولة ثانية في شهر فبراير/ شباط 2020، بهدف منع وقوع مزيد من المواجهات بين الطرفين في منطقة إدلب، وبطابع عسكري أمني هذه المرّة. ولكن توقيت التحرّك الإيراني الجديد وأسبابه ودوافعه في هذه المرحلة يختلف تماما عن المحاولات السابقة. هناك أولا هاجس نتائج جولة بايدن الشرق أوسطية باتجاه الرياض وتل أبيب، ثم تصريحات القيادات الأردنية، أخيرا، عن عمليات تهريب المخدّرات، وما يجري إيرانياً في جنوب سورية، وبعدها ارتدادات مواقف لبنانية وعربية في شأن سياسة طهران في لبنان، وتحريك حليفها، حزب الله، للهيمنة على مسار ملف ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، وكذلك حصة إيران في البيان الختامي لقمة حلف شمال الأطلسي في مدريد، وكذلك في مضمون البيان المصري البحريني أخيرا، إلى جانب فشل جهودها على خط دمشق القامشلي، مقابل ولادة تحالف استراتيجي على خط أنقرة تل أبيب، سبقه انفتاح واسع تركي إماراتي وتركي سعودي. هناك قناعة إيرانية باحتمال خسارة الكثير أمام تفاهمات إقليمية جديدة يقودها بايدن أو تفرض عليه إقليميا، ونجاح الاصطفاف الإقليمي الجديد ضدها في تسجيل اختراقات على أكثر من جبهة تعنيها في إطار مساومات وصفقات تقبل واشنطن وموسكو بها لحماية مصالحهما مع هذه العواصم في المنطقة، وكلها في مقدمة الأسباب التي تدفع القيادة الإيرانية إلى التلويح بوجود مثل هذه المبادرة.
يدرك الرئيس البراغماتي، أردوغان، أن الانتخابات المقبلة بعد عام ستكون صعبة عليه، وأن قوى المعارضة ستعتمد سياسة تركية مغايرة في الملف السوري أكثر انفتاحا وتعاونا مع دمشق. لذلك لن يفرّط بعرض إيراني من هذا النوع يخفّف ضغوط الداخل والخارج عليه في الملف السوري، وهو قد يقبل طرح فتح الأبواب مجددا نحو دمشق لأسباب داخلية وخارجية، فيها السياسي والاقتصادي والأمني، لكنه لن يدخل في مغامرة شخصنة الأمور باتجاه “تبويس اللحى”، أو التفريط بالعلاقات الاستراتيجية التي بناها مع قوى المعارضة السورية، والتضحية بهذا التحالف بعد أكثر من عقد على التنسيق والتعاون بينهما مقابل إرضاء النظام في سورية. وهو أيضا لن يعوّل كثيرا على تحرّك إيراني بهذا الاتجاه، طالما أن التوازنات الإقليمية تتغير، وطالما أن أنقرة بدأت تسترد ما فقدته من فرص وثقل في علاقاتها العربية والإسرائيلية التي لم تبدّل كثيرا من مواقفها وسياساتها الإيرانية.
كيف ستعلق القيادة السياسية التركية على مسألة المبادرة الإيرانية، وتتعامل معها، مهم طبعا ولكن الغموض الذي لم تتكشف أسبابه بعد يتعلق بمسارعة طهران للكشف عن مبادرتها هذه من دمشق، وليس من أنقرة التي زارها وزير خارجيتها أخيرا. هل اكتشفت القيادة الإيرانية صعوبة ما تحاول القيام به، وأرادت التراجع عنه من تلقاء نفسها وإغلاق الملف قبل أن تعلن تركيا رفضه؟ أم هي تريد أن تبرّر تصعيدها المحتمل على خط تل رفعت، بذريعة تجنيب بلدتي نبل والزهراء (الشيعيتين) أخطار العملية العسكرية التركية التي تتطلب دخولها العسكري المباشر على الخط عبر مليشياتها التي اقتربت من الحدود الجنوبية لتركيا بضوء أخضر روسي منزعج مما فعلته القيادات التركية في مدريد؟
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت