في تهافت التطبيع العربي مع نظام الأسد
ازدادت سرعة قطار التطبيع العربي مع نظام الأسد بشكل لافت في الآونة الأخيرة، وبما يشي أن مرحلة عزلة هذا النظام عربياً قد انتهت، حيث كثرت الخطوات والمشاريع الهادفة إلى إعادة تعويم هذا النظام الإجرامي، والتي تجسدت في لقاءات عدد من وزراء الخارجية العرب (مصر والأردن وتونس والجزائر والعراق وعُمان) مع وزير خارجية النظام، جرت على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، إضافة إلى إجراءات وخطوات التقارب الأردنية، الهادفة إلى إعادة العلاقات السياسية والاقتصادية مع النظام، وتمخضت عن استئناف رحلات خطوط الطيران الملكية الأردنية إلى مطار دمشق، وإعادة افتتاح وتشغيل مركز حدود جابر الكبير، إلى جانب التوصل إلى تفاهمات أمنية وتوافقات على آليات عمل مشتركة في مجالات التجارة والطاقة والزراعة والمياه والنقل، وذلك على خلفية زيارات قام بها عدد من وزراء النظام إلى العاصمة الأردنية عمان، بمن فيهم وزير دفاعه، فضلاً عن الاجتماعات واللقاءات الرباعية والثنائية التي جرت في إطار صفقة الغاز المصري والكهرباء الأردنية إلى لبنان، بموافقة أميركية.
ويبدو أن مسار قطار التطبيع مع النظام مرسوم بشكل جيد في نطاق عملية ممنهجة، تقودها بعض الأنظمة العربية لإعادة تلميعه وتأهيله، بالرغم من كل المجازر والجرائم والانتهاكات التي ارتكبها بحق الشعب السوري، إذ بعد إعادة كل من الإمارات والبحرين فتح سفارتيهما في دمشق، جاء الدور على الأردن كي يتولى المهمة، انطلاقاً من التسليم بأن نظام الأسد باق في السلطة، إلى جانب تهافت رموز نظام المحاصصة الطائفية اللبناني على زيارة دمشق لتأكيد دعمهم له، وعلى عمق وصلابة علاقات التحالف التي تربطهم به منذ زمن بعيد.
والواقع هو أن تهافت الأنظمة العربية على التطبيع مع نظام الأسد لم ينقطع يوماً، وذلك منذ إعلان الجامعة العربية القطيعة الدبلوماسية معه في 12 نوفمبر/ تشرين الثاني 2011، والتي لم ترقَ إلى مصاف قطيعة كاملة معه من طرف معظم الأنظمة، لكن قطار التطبيع كان يمرّ بمحطات من التعثر والتوقف والتردد، بالنظر إلى التفاهمات والمواقف الدولية حيال القضية السورية، وأهمها مواقف الإدارات الأميركية المتعاقبة على البيت الأبيض، وخاصة بعد صدور قانون “قيصر”، الذي يبدو أن الإدارة الأميركية الحالية قد منحت كلاً من الأردن ولبنان استثناءات منه ضمن عملية خاصة، من أجل الإسهام في حل بعض أزمات النظام اللبناني المستفحلة، وخاصة في مجال الطاقة، وتقديم عوائد وفوائد مالية واقتصادية إلى الأردن، الذي يبحث عن حلول لتدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، نتيجة الأزمات الخانقة التي تعصف به.
وعلى الرغم من إغلاق معظم سفارات الدول العربية في دمشق، إلا أن أنظمتها الحاكمة لم تخفِ رغبتها في التطبيع مع نظام الأسد وسعيها الحثيث إليه منذ سنوات، فلجأت إلى فتح قنوات اتصال أمنية واستخباراتية معه، ثم قام بعضها بإعادة فتح سفاراتها، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، بل تتالت الخطوات التطبيعية تزامناً وتناغماً مع دفع الساسة في النظام الروسي باتجاه تعويم الأسد ونظامه عبر مختلف البوابات والذرائع، لكن اللافت هذه المرة هو قيام الساسة في الأردن بدور رئيسي في التطبيع مع الأسد، يتعدى الحصول على منافع اقتصادية وتجارية إلى ما هو أوسع وأبعد من ذلك، ويطاول إطلاق مسار تطبيع إقليمي وبتوكيل أميركي، بدأ منذ أن طلب ملك الأردن، عبد الله الثاني، خلال زيارته الأخيرة إلى واشنطن، من الرئيس الأميركي جو بايدن، استثناء الأردن من عقوبات قيصر، وذلك على خلفية محاولته تسويق مقولة، تبدو شديدة الواقعية بالنسبة إلى الأردن وسواها من الدول، وتقضي التسليم بأن “بشار الأسد مستمر في الحكم، والنظام ما يزال قائماً” في سوريا، لذلك يجب على أنظمة هذه الدول أن تكون “ناضجة في تفكيرها”، لأن الهدف من التطبيع مع نظام الأسد هو تغيير سلوكه، خاصة أن الولايات المتحدة الأميركية، ومعها جميع دول الأوروبية، لم تتوقف يوماً عن تكرار القول إن هدفها ليس تغيير نظام الأسد، بل إن بعضها تذرع بأن هذا النظام ليس عدواً لها.
غير ما يشير إلى تهافت التطبيع مع نظام الأسد هو أن سياسات ومواقف وسلوك النظام في الأردن، ومعه أنظمة دول أخرى كثيرة، هو الذي تغير، فيما لم يتغير سلوك النظام ولا ممارساته أو سياساته أبداً، وبالتالي فإن الوقائع والممارسات تشير إلى أن دور الأردن يتخطى المنافع الاقتصادية التي يريد الحصول عليها، خاصة أنه يمثل جغرافياً دول معبر بالنسبة إلى سوريا، وبالتالي فإنه طموحه يتعدى موجبات الجوار ومسوغات الجغرافيا إلى تولي مهمة تسويق مبادرات وتسويات سياسية مع نظام الأسد، وذلك بعد أن قامت روسيا بإعادة هندسة الوضع في الجنوب السوري بما يتناسب مع فرض النظام سيطرته عليه، تحضيراً لتفاهمات واتفاقات مرحلة مقبلة إقليمياً ودولياً، بهدف إعادة رسم الخريطة السياسية في المنطقة، والتي أراد الساسة الروس من خلالها الإيحاء بأنهم قاموا بترتيبات جديدة في الوضع السوري، ويريدون تسويقها إلى الإدارة الأميركية، بغية نقلها إلى مستوى تفاهمات يمكن من خلالها الدخول في تسوية سياسية للوضع السوري تحفظ مصالح النظام الروسي، وذلك في ظل طموحهم لسد الفراغ الناجم عن استراتيجية الانسحاب التي تقوم بها الإدارة الأميركية وبدأت في تنفيذها في أفغانستان والعراق وقد تطول سوريا، وبالتالي يأتي التطبيع مع نظام الأسد استعداداً من طرف دول الإقليم وسواها لمرحلة ما بعد الانسحاب الأميركي، واستثماراً للميل الواضح لدى معظم الأنظمة العربية نحو الدخول في مرحلة جديدة تفتح الأبواب على نظام الأسد، وإدارة الظهر نهائياً للكارثة التي ألمت بسوريا والسوريين، وذلك في إطار لعبة المصالح الدولية، التي أسهمت في ضرب الثورة السورية ووأدها، لصالح ترسيخ الاستبداد الأسدي.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت