صحيح أن الشعب السوري انتفض بغالبيته قبل عقد تقريبا على نظام الأسد وأن الثورة قوبلت بالرد الدموي الذي قابله أيضا إجماع دولي على ضرورة رحيل النظام في دمشق، لكن الصحيح أيضا هو أن الأمور في سوريا خرجت عن مسارها المتوقع وأنها تتقدم في المجهول حتى الآن.
تركيا كانت بين اللاعبين المؤثرين في الملف السوري وما زالت. لكن مشكلتها تبقى تسرعها أحيانا وترددها أحيانا أخرى في اتخاذ القرار وتحديد المواقف مفرطة بالكثير من الفرص والأوراق التي كانت تملكها فتحولت إلى مكاسب لآخرين دخلوا في صفقات واصطفافات إقليمية ضدها في سوريا.
التوتر القائم بين أنقرة ودمشق سببه انحياز تركيا إلى جانب الثورة السورية التي أسقطت كل ما شيد من علاقات شخصية بين رأسي السلطة السياسية في البلدين. الرسائل التصعيدية لم تتوقف لحظة وكان يتخللها التحدي والتهديد كلما تعقدت الأمور في المشهد السوري. أكثر من محاولة إقليمية للتهدئة والجمع بين أردوغان والأسد وصل إلى طريق مسدود ليس فقط لأن الرجلين تصلبا في مواقفهما بل لأن مسار الأزمة في سوريا شهد حالات تحول سياسي وعسكري مصحوبة باصطفافات محلية وإقليمية جديدة بين ضروراتها تكريس التباعد والقطيعة.
حماس موسكو وطهران شركاء النظام في دمشق باتجاه الوساطة بين أنقرة ودمشق تراجع إلى أدنى المستويات لأن الكثير من المعطيات تغيرت. تضارب المصالح التركية الروسية والإيرانية في سوريا تحول إلى تصفية حسابات في ملفات إقليمية أخرى كان آخرها جنوب القوقاز والانفجار الواسع على جبهات قره باغ. الأسد يواصل أسلوب التهديد والوعيد ضد تركيا لكنه هذه المرة يريد أن يلعب دور ساعي البريد الذي يقوم بنقل الرسائل الروسية الإيرانية العربية وحتى الغربية إلى أنقرة.
تصريحات ومواقف جديدة متلاحقة خلال أقل من أسبوع وعبر أكثر من وسيلة إعلامية تسهل للأسد إيصال ما يريد إلى أنقرة. بعضها قديم مكرر وبعضها جديد بتوقيع روسي إيراني وبينها إشارات الغزل نحو فرنسا والإمارات وكل من له مشكلة مع تركيا.
يجدد تمسكه بمحاربة المصالح التركية أينما كانت واستعداده لتقديم الخدمات إلى كل من له حسابات يريد تصفيتها مع أنقرة ومهما كان نوعها، والقناعة هي أنها رسائل مباشرة لبعض العواصم العربية لتذكيرها أنه جاهز لفعل كل شيء إذا ما راجعت مواقفها حياله.
يهدد بإعلان “المقاومة الشعبية ضد الاحتلال التركي والأميركي” لكنه يتناسى التفاهمات الثلاثية التركية الروسية الإيرانية تحت سقف الأستانا وفي سوتشي التي تسمح له بالتحدث فقط عندما تصدر الأوامر إليه، ويتجاهل مئات أطنان السلاح التي قدمتها واشنطن لحليفها قسد الذي يحتاجه هو في مصالحهما التجارية والحياتية اليومية.
يتهم أنقرة بإشعال الحروب في الخارج لصرف أنظار الأتراك عما يدور في الداخل لكنه ينسى هو أنه يحاول المتاجرة بالملفات الإقليمية وطرح المسائل الاستراتيجية والدولية البعد متجاهلا حقيقة أن احتياجات الداخل السوري في المناطق التي يشرف عليها تؤمن بالقروض والمساعدات والتمويل الروسي والإيراني والإماراتي مؤخرا بعد قرار أبو ظبي الانفتاح عليه وعلى إسرائيل في وقت واحد وهو ما يلفت الانتباه ويحمل معه أكثر من تساؤل.
يتحول إلى المدافع الأول عن أرمينيا واحتلالها لأراضي أذربيجان تحت ذريعة نقل المرتزقة من الجهاديين السوريين وغيرهم إلى جبهات قره باغ والكل يعرف أنه ينقل الرغبة الروسية والإيرانية ضد تركيا هنا بسبب حروب النفوذ والمصالح في جنوب القوقاز. رسالة تلقفها سريعا المتحدث باسم الرئاسة الروسية “الكرملين يدرس بعناية تصريحات الرئيس السوري حول نقل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لمقاتلين من سوريا إلى قره باغ”.
الصدمة التي خيبت آمال الأسد ورهانه الدائم على أحزاب المعارضة التركية خصوصا حزب الشعب الجمهوري جاءته هذه المرة من البرلماني التركي أوزتورك يلمازالمنتسب إلى هذا الحزب “الأسد لديه كراهية شخصية لأردوغان. يريد أن يلحق به الأذى في كل أنحاء تركيا، تصريحات الأسد لا قيمة لها، وهي أداة دعاية .. تركيا مثل غيرها تحمي مصالحها وحقوقها في شرق المتوسط والقوقاز”.
الأسد الذي يدافع عن القواعد العسكرية الروسية في سوريا “لأنها ضمان الأمن والاستقرار في البلاد وفرصة محاربة الإرهاب العالمي” يحتاج إلى أكثر من ذلك من أجل التسويق لنظامه وتقديم الخدمات في البازار السياسي والأمني بهدف تحصين كرسيه من تحته وهو سيجد الكثير من الزبائن حتما حتى ولو كان ذلك سببا في إراقة المزيد من الدماء وإطالة أمد معاناة السوريين.
يحاول رفع السعر في المساومة مع إسرائيل عبر التصلب في رفض الحوار والتطبيع رغم معرفته أن التفاهمات حول هذا الملف تتم مع موسكو وطهران عبر مساومات إقليمية لا قدرة للأسد في الاعتراض عليها.
يغازل ماكرون من البعيد ليقول له إن أبواب دمشق مشرعة أمامه للتفاوض والمساومة على الكثير من الملفات التي تهم باريس والتي تقلقها بسبب التمدد التركي الإقليمي. فنجد باريس تتوسط بين حليفه حزب الله وبين الإسرائيليين بطلب أميركي ونتابع مفاوضات ترسيم الحدود البحرية اللبنانية الإسرائيلية تتقدم على الأرض في إطار مشروع أكبر سيشمل سوريا كما يريد البعض والوسيط الفاعل بين دمشق وتل أبيب قد يكون أبو ظبي هنا.
يحاول أن “يوزع الفرص” ويضع نقطة النهاية في ملف إدلب وسقوط التفاهمات التركية الروسية هناك ملوحا بأن خيار الحسم العسكري هو الوحيد المتبقي، “كان على تركيا إقناع الإرهابيين بمغادرة المنطقة وتمكين الجيش السوري والحكومة والمؤسسات السورية من السيطرة عليها، لكنهم لم يفعلوا ذلك” وهي رسالة قلق إيراني أراد نقلها نيابة عن طهران لأنقرة وموسكو خصوصا بعدما أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن تمسك بلاده “بالاتفاقيات الواضحة مع تركيا حول إدلب والتي يتم تنفيذها”.
رد الرئيس أردوغان كان موجزا ومكثفا “لم يكن بوسعنا التزام الصمت إزاء الوضع في سوريا، والأزمة التي أدت إلى مقتل نحو مليون إنسان ونزوح 12 مليوناً آخرين.. أنقرة ليست بوارد الإبقاء على وجودها العسكري في سوريا إلى أمد بعيد، الوجود العسكري التركي مرهون في سوريا بالتوصل إلى حل دائم للأزمة هناك”. لكننا لا نعرف بعد إذا كان ما نسب في الإعلام العربي إلى مصادر دبلوماسية روسية” أن رأس النظام السوري بشار الأسد مازال يحاول التهرب من الاستحقاقات السياسية وأن التصريحات التي أدلى بها مؤخراً أثارت حفيظة موسكو” هو صحيح أم لا؟ إذا ما صحت هذه الأنباء فاحتمال أن يكون الأسد يتحدث باسم آخرين تتعارض حساباتهم ومصالحهم مع ما تقوله وتريده موسكو وأن الرد الروسي سيأتيه عاجلا بشكل أو بآخر.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت