معالم مرحلة جديدة، بدأت تتبلور مؤخراً، في مناطق شمال شرق سورية، قد تكون إذا ما اكتملت معالمها، مختلفة عن سابقاتها؛ سواء على المسار السياسي أو الإداري والعسكري.
ويمكن استشراف ذلك، من آخر تصريحات لقائد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، مظلوم عبدي(اسمه الأصلي فرهاد عبدي شاهين)، الذي تكررت إطلالاته في الأيام الماضية، ووجه من خلالها رسائل داخلية وخارجية في ذات الوقت، لاسيما تلك المتعلقة بالإقرار بدعم “حزب العمال الكردستاني” لقواته، إضافة إلى الكشف عن عدد قتلاه.
وتعتبر قضية “حزب العمال”، (pkk) وطبيعة نشاطه في شمال شرق سورية، من أبرز القضايا الحساسة، التي تجنّبت القيادات الكردية، على مدار السنوات الماضية النقاش فيها، لإدراكهم حساسية تأكيد الارتباط بين “pkk” و”قسد”.
“حزب العمال”، الذي تأسس في سبعينيات القرن الماضي، مصنفٌ على قائمة المنظمات الإرهابية في كل من تركيا وأمريكا ودول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا وأستراليا، وتعتبر أنقرة أن “قسد” تعتبر جزءاً من “pkk”، وهي الفرع السوري له.
وقبل الحديث عن الأبعاد والنوايا التي يريدها مظلوم عبدي من الإقرار بمشاركة “حزب العمال” في العمليات العسكرية شرق سورية،
ولا يمكن فصل إقرار قائد “قسد” بمشاركة “حزب العمال الكردستاني” بالعمليات العسكرية في سورية، عن السياق العام الذي تعيشه المناطق التي تسيطر عليها “قسد”، والتي باتت مهددة عسكرياً على أكثر من محور؛ سواء من جانب الجيش التركي، أو جانب قوات الأسد وروسيا، إضافةً إلى كونها تترقب سياسة الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة جو بايدن، وما إذا كانت ستختلف عن توجهات إدارة دونالد ترامب.
“نقطة من أول السطر”
تصريحات مظلوم عبدي المتعلقة بـ “حزب العمال الكردستاني” كانت في اتجاهين؛ الأول أثناء مقابلته مع “مجموعة الأزمات الدولية”، والتي أقر فيها بمشاركة مقاتلي الحزب في شمال شرق سورية، أما الاتجاه الآخر فكان عبر وسائل إعلام تتبع “حزب العمال الكردستاني”، منذ أيام، حيث أشاد بـ”تضحيات مقاتلي حزب العمال في سورية”، كاشفاً عن مقتل أكثر من 4 آلاف مقاتل منه.
الكاتب والصحفي، هوشنك أوسي، يرى أن “تصريحات مظلوم عبدي المذكورة هي تصريحات إيجابية، وينبغي الترحيب بها من كل الأطراف، في مقدمتها أنقرة وقيادة حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل”.
ويقول أوسي في تصريحات لـ”السورية.نت”، إن “الاعتراف بمشاركة حزب العمال في القتال بسورية هو الأول على هذا المستوى”، لاسيما أن حزب الاتحاد الديمقراطي” (pyd) كان دائماً ينفي وجود “pkk” في سورية، وهو الأمر الذي التزم به الأخير أيضاً، وأكد على عدم مشاركة قواته.
وتُعتبر تصريحات عبدي “نقطة من أول السطر” في المرحلة الجديدة التي يستعد لها وتحدّث عنها مؤخراً، إذ يوضح هوشنك أوسي، أن “الاعتراف يصب في إطار خروج مقاتلي حزب العمال من سورية، وهو قرار تم اتخاذه لكن لن يكون بشكل سريع، بل هناك جدولة زمنية للانسحاب من الإدارات التي يتولاها مسؤولو الحزب”.
وكان عبدي قد أوضح أثناء مقابلته مع “مجموعة الأزمات الدولية”، أن عملية انسحاب المقاتلين غير السوريين من مواقعهم الحالية، بدأت بشكل تدريجي، وتستمر مع عدم الالتزام بجدول زمني لانسحاب المقاتلين بالكامل، مشيراً إلى أن الأمر يجري بوساطة أمريكية، ومحادثات مع القوى الكردية الأخرى، بما فيها “المجلس الوطني الكردي”.
هل من السهل خروج pkk من سورية؟
حتى الآن يقتصر الحديث عن الخروج التدريجي لـ “حزب العمال” من سورية على قائد “قسد”، مظلوم عبدي، دون أي رد من قيادات الحزب، الذي وحسب مراقبين لن يكون خروجه أمراً سهلاً من مناطق شمال شرق سورية، والتي يعتبرها إحدى مقومات بقائه واستمراريته العسكرية.
حديث عبدي المنفرد، كان له صدى حديث عن وجود تيارين في “قسد”؛ الأول يدعم فكرة إخراج مقاتلي “الحزب” لكن بصورة مشرّفة، أما التيار الآخر فيرفض نقاش هذه الفكرة، والتي من شأنها أن تضرب مشروع “حزب العمال” كاملاً في سورية، ومن ثم إلى باقي المناطق التي ينشط فيها.
وبوجهة نظر الصحفي أوسي، فإن “عبدي يريد خروجاً مشرفاً وآمناً وسلساً من تلك المناطق لمقاتلي الحزب(الكردستاني)، ويرى بأن شرق سورية لم تعد بحاجة للعمال، وهناك كفاية على الصعيد الإداري والعسكري”.
لكن السؤال العالق هل سيقبل “حزب العمال” بهذا الخروج؟، وهل جبال قنديل ومن خلفها دمشق وطهران ستوافقان على هذا القرار في مناطق شرق الفرات؟.
يقول أوسي إن ما سبق “هو السؤال الحقيقي الذي ينبغي أن تجيب عليه الأيام القادمة، من خلال التصرفات والسياسات التي سيتخذها حزب العمال”، وبتقديره: “ليس من السهل خروج حزب العمال من مناطق شمال وشرق سورية”.
ويوضح ذات المتحدث، أن “لحزب العمال مقاربة، ويرى أنه حيثما أريقت دماء مقاتليه فهذه الأرض هي له”.
ويؤكد أوسي أن “خروج حزب العمال من سورية صعب، لأن روج آفا بالنسبة للأخير تعتبر عصب الحياة منذ أكثر من 30 عاماً، وهو أمر مثبت في حقبة الثمانينات عندما كان أوجلان في سورية”.
بين ألدار خليل ومظلوم عبدي
عند النظر للصورة العامة لـ “قسد” في الوقت الحالي، سواء هيكلتها العسكرية أو السياسية والإدارية، تبدو وكأنها متماسكة، بعيداً عن أي انشقاقات أو خلافات، لكن هذا لا يعكس الواقع.
فمراقبة مواقف كل شخصية قيادية، سواء في “حزب الاتحاد الديمقراطي” أو “قسد” توضحُ أن هناك تبايناً في الأفكار والطروحات، خاصة في العلاقة التي ستكون عليها المنطقة مع تركيا مستقبلاً، أو فيما يخص مصير المقاتلين الأجانب، في “حزب العمال”.
وتتضح شيئاً فشيئاً، معالم تيارين داخل “قسد”؛ الأول تابع تماماً لإرادة وأمر “حزب العمال الكردستاني”، ويقوده ألدار خليل، أما التيار الآخر فيبدو أنه يحاول إيجاد حالة من “الاستقلالية” عن “حزب العمال”، ويتزعمه مظلوم عبدي، حسبما يعتبر الصحفي هوشنك أوسي.
يضيف نفس المتحدث:”هناك خلافات موجودة بين هذين التيارين، والأمريكيين يصطفون مع تيار مظلوم عبدي حتى الآن”، معتبراً أن عبدي ينبغي عليه “إشهار الاستقالة من عضوية حزب العمال، لأنه كان قيادياً بارزاً، وعضو لجنة مركزية فيه”.
ويُعتبر عبدي من أوائل الكوادر السورية التي التحقت بـ”حزب العمال”، بعد منتصف الثمانينات، ويتابع أوسي: “يفترض أن يعلن مظلوم عبدي في سياق هذه التصريحات الإيجابية استقالته بشكل رسمي كعضو في هذا الحزب وكقيادي فيه”.
في توقيتين مهمين
تصريحات عبدي الأخيرة، بالإقرار بوجود “حزب العمال” في سورية، وما سبقها من إبداءه الاستعداد للحوار من تركيا، يبدو أنهما نقطتان تتجهان في مسار واحد، ولا تنفصلان عن المحادثات الكردية- الكردية، والتي كان من أبرز محطاتها العالقة، تلك المرتبطة بتحديد العلاقة بين المقاتلين الكرد السوريين في شرق سورية والمقاتلين الأجانب المنضوين في “حزب العمال”.
ووفق الباحث والأكاديمي، أحمد القربي، فإن حديث عبدي يأتي في توقيتين مهمين: الأول هو تهديد الأتراك بشن عمليات عسكرية جديدة، سواء على عين عيسى أو باقي المناطق الواقعة على الحدود.
أما التوقيت الآخر، حسب ما قال القربي لـ”السورية.نت”، فهو مع قرب وصول الإدارة الأمريكية الجديدة برئاسة جو بايدن، والمعروف بتعاطفه مع الطرف الكردي، على عكس الإدارة السابقة لسلفه دونالد ترامب.
ويشير القربي إلى أن “قسد” في الوقت الحالي تمسك بعدة أوراق قوة، أبرزها الموقع الجغرافي الذي تسيطر عليها من الخريطة السورية، بالإضافة إلى محاولة تمثيلها للطرف الكردي، بمعنى استثمارها للقضية الكردية، بالإضافة إلى العلاقات التي تحظى بها مع الدول الغربية.
قرار فك الارتباط ليس جديداً
رغم أن الإقرار بوجود “حزب العمال” في سورية والبدء بانسحابه تدريجياً يعتبر أول حديث من نوعه من جانب إحدى قيادات “قسد”، إلا أن هذا الأمر ليس حديثاً، بل يعود إلى أكثر من عام، أي في أثناء إدارة دونالد ترامب.
لذلك يبدو أن عملية فك الارتباط بين “قسد” و “pkk” لا تتعلق بوصول جو بايدن إلى البيت الأبيض فقط، إذيرى الكاتب هوشنك أوسي أن عملية إبعاد “شبح حزب العمال عن قرارات أكراد سورية هو قرار أمريكي متخذ منذ قرابة عام”.
ويتابع أوسي: “في حال لو فازت إدارة ترامب في الانتخابات كان سيصار استكمال هذا المشروع”، معتبراً أن مجمل ما يجري في سورية لا علاقة له بشكل أساسي واستراتيجي بمجيء إدارة جو بايدن، بل المشروع (فك الارتباط) كان متبلور في عهد ترامب وسيصار لتطبيقه في عهد بايدن.
وفي وقت سابق كان عبدي قد قال إن فوز الرئيس الأمريكي، جو بايدن، قد يؤدي إلى تغييرٍ في سلوك أنقرة، إذ أن خيارات تركيا ستتقلص من وجهة نظره، ولم تعد الظروف تفضل استمرار موقفها “العدواني”، في ظل حكم الإدارة الأمريكية الجديدة، حسب تعبيره.
واعتبر عبدي أن نجاح المحادثات مع “المجلس الوطني الكردي” وعمل جميع الأحزاب الكردية معاً، سيكون له تأثير إيجابي على علاقة الأحزاب الكردية مع تركيا، ومن شأنه أن “يسلب تركيا أعذارها لاستمرار عدائها لهم”، ويمنح الطرفين فرصاً اقتصادية أيضاً.