مع تزايد العقبات أمام العملية البرّية التي كانت تعتزم تركيا القيام بها لإنشاء منطقة آمنة بعمق 30 كم داخل الأراضي السورية، تتّجه أنقرة إلى بناء تفاهماتٍ جديدة أو تطوير قديمة، بشأن سورية، مع موسكو التي تواجه بدورها وضعاً صعباً في أوكرانيا. ويبدو أن نتائج انتخابات نوفمبر النصفية الأميركية التي جاءت بعكس ما تشتهيه سفن موسكو وأنقرة لعبت دوراً في الدفع نحو مزيد من التقارب الروسي – التركي، حيث عزّزت موقف إدارة بايدن التي تبدي التزاماً أكبر من الجمهوريين بدعم الأكراد (خصوم تركيا)، ولا تملك سياسة في سورية خلا مواجهة “داعش”. أما بالنسبة إلى موسكو، فإن نصف الانتصار الذي حقّقه الديموقراطيون في انتخابات نوفمبر يعني استمرار سياسة دعم أوكرانيا حتى “هزيمة” موسكو. لم يترُك هذا على ما يبدو أمام تركيا وروسيا من خيار إلا التعاون لتحقيق مصالحهما في سورية بالنسبة إلى الأولى، وفي أوكرانيا بالنسبة إلى الثانية.
يفسّر هذا تزايد الاتصالات التركية الروسية في الآونة الأخيرة، وعلى مستويات رفيعة، في ضوء تنامي المصالح المشتركة. ويبدو واضحاً أنه كلما اشتدّت الضغوط الغربية على موسكو تزايدت فرص تقاربها مع تركيا التي تحاول بدورها الاستفادة من مأزق روسيا والغرب، لتحقيق أمنها الطاقوي أولاً، وبلوغ حلمها القديم تالياً، والمتمثل في التحوّل إلى منطقة عبور للطاقة الواصلة إلى أوروبا من مناطق آسيا الوسطى وبحر قزوين وإيران ومنطقة الخليج العربي وروسيا وحتى البحر المتوسط، عبر التفاهم مع مصر وإسرائيل. تدرك روسيا أهمية هذا الحلم بالنسبة إلى تركيا، وهي تحاول لذلك شدّها إليها أكثر عبر اقتراح إنشاء مركز لتوزيع الطاقة الروسية على أراضيها. والواقع أن تركيا صارت، في الفترة الأخيرة، الرئة التي يتنفس الاقتصاد الروسي، الواقع تحت العقوبات الغربية، من خلالها، ما يفسّر تصريحات مسؤول السياسة الخارجية الأوروبية، جوزيب بوريل، الأسبوع الماضي، وعبّر فيها عن قلقه حيال تنامي تقارب تركيا مع روسيا، حيث بات بعض المعلقين الأوروبيين يعتبرون أن تركيا تلعب دوراً لا يقلّ أهمية عن دور إيران في دعم مجهود روسيا الحربي، إنما على المستوى الاقتصادي.
وجد هذا التقارب الكبير بين تركيا وروسيا صدىً له في سورية أيضاً، حيث تحتاج حكومة أردوغان، مع اقتراب موعد الانتخابات العامة في يونيو/ حزيران المقبل، إلى تحقيق نتائج سريعة على صعيد حل مسألة اللاجئين السوريين وإنهاء التهديد الذي تمثله قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، المدعومة أميركياً، على مصالح تركيا الأمنية. هنا تحاول موسكو بدورها استغلال هموم أردوغان الانتخابية، لدفعه إلى استكمال استدارته السورية، خصوصاً أن الطرفين الروسي والتركي باتا متفقين على أولوية إخراج الأميركيين من شمال شرق سورية، وإعادة النظام إلى المناطق الحدودية، وتفعيل اتفاق أضنة معدّلاً. وتلعب موسكو، منذ فترة، دور وساطة بين أنقرة والنظام السوري، بلغت ذروتها أخيراً بطرح تركيا مقترحاً تلقّفته موسكو سريعاً لإنشاء آلية ثلاثية تركية روسية سورية “لتسريع الدبلوماسية بين أنقرة ودمشق”.
وفيما تريد موسكو، التي يعنيها بقاء أردوغان، وإبعاد المعارضة التركية، الأقرب إلى واشنطن عن الحكم، المضي سريعاً بإنشاء هذه الآلية، يتردّد النظام السوري، الذي، وإن كانت له مصلحة فعلية في حل مشكلاته مع أنقرة باعتبار ذلك خطوة لا غنى عنها نحو استعادة سيطرته على كامل الأراضي السورية، واعترافاً “بشرعيته”، وفشل جهود إسقاطه، وانفتاحاً على قطب إقليمي مهم بحجم تركيا، إلا أنه يأمل حصول ذلك مع المعارضة التركية وليس مع أردوغان. ويسود اعتقاد بأن الوضع الاقتصادي الصعب الذي يواجهه النظام السوري هو فقط ما يمكن أن يغيّر موقفه بخصوص التجاوب مع مساعي أنقرة وموسكو. من هذا الباب، يغمز بعضهم من جهة إيقاف موسكو كل مساعداتها للنظام (أغلبها نفط وقمح)، وكذلك تركيز تركيا، في الآونة الأخيرة، على تدمير البنية التحتية لاستخراج النفط من مناطق شرق الفرات التي يسيطر عليها الأكراد، ما أحدث أزمة خانقة في مناطق النظام. هل لما يجري على جبهة الشمال علاقة بمقتل الزعيم الرابع لـ”داعش” في درعا، والأنباء عن تسليم جثته للأميركيين؟ من الصعب الجزم بذلك، ما يمكن الجزم به حقاً أن الوضع السوري بات معقداً إلى درجةٍ يصعب معها اجتراح حلٍّ قريب له.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت