قبل أيام من زيارة وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف إلى سوريا ، سربت مصادر دبلوماسية روسية إلى مراسلين عرب في موسكو نبأ الزيارة ، وحرصت على الا تنشر في المواقع الرسمية الروسية أية إشارة إليها . والتسريبات الروسية لم تكن تسبق لا زيارات بوتين ولا زيارات وزير الدفاع سيرغي شويغو ، بل كان يتم الإعلان عنها بعد حصولها . طبعاً ، لا يمكن القول بغياب الهاجس الأمني لزيارة لافروف ، وهو ما يستحيل في سوريا ، حتى للمواطن العادي ، لكن التسريبات بشأن زيارة لافروف كانت تهدف ، كما يبدو ، إلى لفت انتباه الجمهور العربي إلى أن الزيارة قد تكون المرحلة الأولى في انتقال الملف السوري من وزارة الدفاع ومخابراتها إلى وزارة الخارجية . وكانت التسريبات الأولى تشير إلى مشاركة وزير الدفاع سيرغي شويغو في الزيارة ، لكنه عاد وسقط إسمه من عداد الوفد ، من دون اي تفسير رسمي ، واقتصر على المستويين السياسي والإقتصادي .
الإعلام الروسي الرسمي من جهته ، لم يولِ الزيارة إهتماماً يُذكر ، ما عدا ذكر أخبارها ، وذلك على العكس من الإعلام العربي ، حتى أن وكالة نوفوستي لم تلجأ ، كعادتها ، إلى خبراء وكتاب سياسيين ومستشرقين للتعليق على الزيارة . ومن بين الصحف الفيدرالية المركزية قامت صحيفتا الإزفستيا ، التي كانت مشهورة يوماً ما ، وصحيفة كومسومولسكايا برافدا ، التي توصف بالصفراء ، بنشر مقالتين مقتضبتين حول الزيارة ، في حين نشرت صحيفة القوميين الروس “SP” مقالة لأحد السوريين ، الذي يبدو أنه من المعارضة ، بعنوان “سوريا : متى يحل السلام” ، لا تضيف للقارئ السوري أو العربي شيئاً جديداً يستحق التوقف عنده.
صحيفة الإزفستيا نشرت يوم الزيارة في 7 من الجاري بعنوان “لماذا سافر سيرغي لافروف إلى سوريا” ، أتبعته بعنوان إضافي : هي الزيارة الأولى إلى سوريا لوزير الخارجية الروسي خلال السنوات الثماني المنصرمة . وترى الصحيفة ، إستناداً إلى خبراء استضافتهم ، أن الزيارة كانت مهمة وفي وقتها ، وتقول بأنها جاءت في اللحظة ، التي أصبح فيها الإنتقال السياسي في سوريا واقعياً للغاية . وتناول لافروف في محادثاته مع القيادة السورية المسائل الإشكالية ، مثل تنظيف محافظة إدلب من الإرهابيين ، وعمل اللجنة الدستورية في جنيف . ولفت لافروف إلى أن الوضع في سوريا يتجه إلى الهدوء تدريجياً ، مما يعني أن الأولوية ، التي تتقدم المشهد هي إعادة إعمار ما بعد الحرب ، مع استنفار المساعدات الدولية . وتتطرق الصحيفة إلى موقف لافروف من عمل اللجنة الدستورية في جنيف ، التي اعتبر أن لا مواعيد زمنية محددة لعملها و”لا يمكن أن يكون” ، وإلى موقفه من الإنتخابات الرئاسية القادمة ، التي اعتبر بأنها مسألة تخص الحكومة السورية .
وتنقل الصحيقة عن مستشرق روسي تأكيده ، بأنه قد حان الوقت لضبط الساعة السورية على الساعة الروسية ، ولذا نضجت ضرورة ذهاب لافروف بنفسه إلى سوريا . ويقول المستشرق ، أن المحادثات تطرقت إلى الوضع في إدلب ، وإلى عمل اللجنة الدستورية والإقتصاد السوري ، ويرى من المهم أن لافروف أكد بشأن إدلب الإلتزام بعملية أستانة ، وأشار إلى نجاح التعاون بين أطرافها الثلاثة ـــــــــ إيران وروسيا وتركياـ ــــــــــ بغض النظر عن الفروقات في مقاربتها للوضع السوري . ويرى هذا المستشرق أن من المهم أن موسكو أكدت على أن عمل اللجنة الدستورية غير مرتبط “بأي شكل من الأشكال” بإجراء الإنتخابات الرئاسية السورية في العام القادم .
الخبير الآخر ، الذي تستشيره الإزفستيا ، هو فيتشسلاف ماتوزوف ، المعروف بتعدد الأوصاف ، والذي تسميه الصحيفة الآن “المستشرق والدبلوماسي السابق . يقول ماتوزوف ، أن زيارة وزير الخارجية الروسي جاءت في وقتها ، مختتمة الصراع الرئيسي مع الإرهاب . ويعتبر أن سوريا اصطدمت بعدم استقرار يهدد وحدة اراضيها ، ولذا برزت الحاجة إلى تطبيق الإتفاقات ، التي تم التوصل إليها في كل من أستانة وسوتشي وأنقرة وموسكو بشأن التسوية السورية .
صحيفة كومسومولسكايا برافدا المخضرمة والباقية بدورها من الحقبة السوفياتية كما الإزفستيا ، اعتبرت الزيارة “مفاجئة” ، وقالت بأنها أحدثت ضجة في السياسة الدولية ، وبأنها أتت بعد ثماني سنوات على آخر زيارة للوزير لافروف إلى دمشق ، ولذا هي “حدث مميز” . لكنها قالت ، بأن تصريحات وزير الخارجية في ختام اللقاء مع الأسد كانت عادية ، اتسمت باقصى الدبلوماسية ، ولم تحمل أية مفاجآت . وتقول بأن لافروف أصر على الإلترام بسيادة سوريا ، وبأن موسكو ، تفليدياً ، تمنح جميع المشاركين في العملية السياسية في سوريا مساحة للحوار ، أي أنها التزمت الخط نفسه ، الذي تلتزمه منذ العام 2015 ، لحظة قيام القوات الروسية “بتقديم المساعدة للشعب السوري الشقيق” في صراعه مع الإرهاب الدولي.
لكن زيارة لافروف تحمل بدون شك ، بعداً حيوسياسياً، براي الصحيفة . فمنذ شهر ، في 4آب/أغسطس تحديداً ، حصلت شركة نفط أميركية كببرة على حق استخراج النفط من شمال شرق سوريا ، الذي يقع تحت سيطرة الأكراد ، الذين لا يعترفون بسلطة دمشق ، وينحازون إلى الولايات المتحدة . وتنقل الصحيفة عن الصحافي الدولي والخبير في شؤون الشرق الأوسط ، على قولها، عباس جمعة (سوري من اللاذقية وخريج جامعة الصداقة الشهيرة) بأن العقد مع الشركة الأميركية تمت مناقشته ، على الأرجح ، في لقاء لافروف الأسد .
ويأتي جمعة على ذكر المحادثات ، التي جرت في موسكو منذ مدة قريبة ، بين “مجلس سوريا الديموقراطية” (مسد) ، وحزب قدري جميل “الإرادة الشعبية” ، يأسف لأن الحدث نال القليل من الإهتمام . والطرفان على توجه روسي وليس أميركياً ، والمحادثات بينهما ، برأي جمعة ، كان يمكن أن تضع نقطة الختام للصراع السوري المديد ، إذا لم تتصلب دمشق في موقفها.
ويذهب جمعة في فرضياته حول الموضوعات ، التي تطرق إليها لقاء الأسد لافروف ، إلى القول بأن اللقاء قد يكون تطرق إلى الصراع التركي اليوناني حول الغاز في شرق المتوسط ، وبأن الجانبين قد نسقا ، على الأرجح ن موقف كل من سوريا وروسيا من هذا النزاع ، علماً أن روسيا لا تنحاز فيه لا إلى تـركيا ولا إلى اليونان . ويفترض جمعة أنه إذا وقفت سوريا إلى جانب تركيا في مسالة الغاز البحري هذه ، فستصبح تركيا أكتر نشاطاً في العملية السلمية السورية ، وبالدرجة الأولى في إدلب .
الذين تابعوا الإنتقادات الحادة ، التي وجهتها مواقع “طباخ بوتين” الإعلامية أواسط نيسان/أبريل الماضي إلى النظام السوري ، والذين يتابعون شكوى الكرملين الدائمة من تعنت الأسد في الإنتقال إلى العملية السلمية في سوريا ، وما تفترضه من تنازلات سياسية ، لا بد أنهم فوجئوا بما انتهت إليه زيارة لافروف إلى دمشق . فلم يكن يتوقع أحد من هؤلاء ومن سواهم أن يعترف الكرملين مسبقاً بشرعية إعادة إنتخاب الأسد الحتمية العام المقبل ، ولا أن تضرب موسكو بعرض الحائط بأي مهل زمنية لعمل اللجنة الدستورية في جنيف ، ولا أن تعترف بشرعية الإنتخابات البرلمانية السورية الأخيرة وتهنئ الأسد بنجاحها . وتذكّر النتائج المفاجئة لما تمخضت عنه زيارة لافروف “المفاجئة” ايضاً إلى دمشق ، بما كتبه الصحافي الروسي المستقل والمعارض ألكسي روشين في مدونته على الفايسبوك ، في 2 الشهر الجاري ، وتقلها موقع “kasparov” المعارض أيضاً ، تحت عنوان “العار السوري يتواصل” ، حيث يقول بأن لا أحد (من الروس ، طبعاً) بوسعه أن يفهم ما الذي يفعله بوتين في سوريا .
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت