مئات الآلاف من سكان إدلب وحلب، الذين نزحوا من بيوتهم تحت وابل البراميل والراجمات وقذائف المدفعية، لا يعرفون إلى أي مكان يلوذون، ولا يجد قسم كبير منهم خيمة تقي أطفاله صقيع البرد، هؤلاء –يا سادة السياسة والتنوير– ليسوا دواعش أو نصرة أو متطرفين، هؤلاء مواطنون مدنيون بسطاء، ينحدر معظمهم من الأرياف، ومن شقوق أياديهم الطاهرة وعرقهم المبارك شربت الأرض، فأينع الزيتون الذي منه تأكلون، وفاض الزيت الذي منه تدّهنون، وأينعت الفاكهة التي ترصّعون بها موائدكم المزدهرة باللذائذ.
هؤلاء – أيها السادة – انبثقوا من التراب، واستعذبوا رائحته، فعشقوا الأرض، والتصقوا بها أشدّ الالتصاق، فأودعوها كل أحلامهم ، يفرحون ويبتسمون لها عندما تفرع وتخصب، ويعبسون عندما تُصحر، فازدهرت خيراً وعطاءً، ومن غلالها درّسوا أبناءهم، وأرسلوهم إلى الجامعات، فكانوا رافداً علمياً متميّزا لبلدهم سوريا، ومن أفياء غاباتها أنشؤوا المتنزهات والمصائف التي كانت موئلاً لكم جميعاً حين تضيقون ذرعاً بصخب مدنكم وازدحام همومكم.
هؤلاء -أيها السادة – عندما انطلقت شرارة الثورة في آذار 2011 ، كانوا خير مجيب لها، وقبل أن يوشك شهر آذار على الانتهاء، حتى تحوّل ريفا إدلب وحلب، إلى صفيح ساخن يضج بالحراك السلمي، وسرعان ما تحولت المظاهرات إلى كرنفالات بديعة تجسّد نقاء ثورة السوريين ووجهها الناصع، ألا تتذكرون جميعاً مظاهرات كفرنبل وبنش، والمعرة، وخان شيخون، وكيف كانت مبعث إعجاب الجميع من حيث تنظيمها وشعاراتها وهتافات المشاركين بها؟
لعلكم تعلمون – أيها السادة – أن جميع سكان ريفي إدلب وحلب، وربما العديد من أمثالهم، ممن انتفضوا بوجه نظام الأسد، لم يكن قد ركن في مخيلتهم، ولا كذلك في يقينهم، أنهم انتفضوا من أجل قيام دولة خلافة إسلامية، أو دولة علمانية، بل ثار هؤلاء ثأراً لكرامة سوريا، التي هم جزء منها، فانطلقوا إلى الساحات يهتفون ويحملون الرايات الخضراء، مطالبين بإسقاط نظام الاستبداد، فشكلوا التنسيقيات التي تعنى بشؤون الحراك، وأسسوا المجالس المحلية، وأداروا شؤون مدنهم، وفقا لإمكانياتهم المحدودة بكل كفاءة واقتدار، وتركوا لكم – أيها السادة – المجال واسعاً، لتسترسلوا بالتنظير لسوريا التي تتخيلونها، كما أتاحوا لكم المجال كله، لتتعاركوا ويتآمر بعضكم على بعض، وتتحولوا إلى لوبيات داخل الجماعة الواحدة، من أجل الظفر بمناصب الكيانات القيادية ، التي تحولت إلى شاهد زور على مأساتهم.
هؤلاء – أيها السادة – لم يكونوا سلفيين، ولا علمانيين، بل ما هو مؤكّد، أنهم يجهلون تماماً ما تنطوي عليه هاتان المفردتان، وإن كنتم تأخذون عليهم أنهم مسلمون، متديّنون بالفطرة، يصلّون ويصومون، ويحرصون على التمسّك بفرائض دينهم، فهم كذلك يغنون ويرقصون ويقيمون الدبكات ويستمتعون بالموسيقا ويلعبون كرة القدم، ويعشقون الحياة بأبهى صورها، تماماً كما المسيحيون في أوربا يذهبون إلى كنائسهم مؤكدين حرصهم على الارتباط بدينهم الذي ارتضوه، ولا يمنعهم هذا من التعاطي مع الحياة بالطريقة التي يرتضونها.
لا أظن أن أحداً منكم ينكر – أيها السادة – أن هؤلاء الثوار الريفيون البسطاء، كانوا مبعث إعجاب كبير للعالم أجمع، وأنتم في مقدمته، بل كنتم تتشدقون على المنابر، وتدّعون بأنكم تتحدثون باسم هذه الجماهير الثائرة، والتي تحولت اليومَ، يومَ محنتها، إلى فلول إرهابية من وجهة نظركم، بحجة أن هؤلاء يقيمون في مناطق وبلدات وقرى ، تسيطر عليها جبهة النصرة، وفصائل إسلامية متطرفة أخرى، وكأنهم هم من استجلب القوى الإرهابية إلى مناطقهم، لقد كان آل الأسد منذ ما يقارب نصف قرن، وما يزالون يحكمون سوريا، فهل كان هذا الاحتلال الأسدي لـ سوريا طيلة تلك الفترة برغبة السوريين ورضاهم؟ وكذلك سيطر تنظيم داعش ما بين عام 2014 – 2016 ، على ثلث الجغرافية السورية، فهل كان سكان تلك الجغرافية الداعشية كلهم دواعش، أو حاضنة للإرهاب؟
نعم لقد حمل قسم كبير من مواطني ريفي حلب وإدلب السلاح، وكان ذلك بعد أن انفلتت قطعان آل الأسد، والميليشيات الطائفية الموالية لها، من أي عقال أخلاقي أو إنساني، وراحت تباغت المواطنين في عقر دارهم، وتقتل الرجال والنساء والأطفال بأشد الوسائل قذارة ووحشيةً، ولا حاجة لتعداد المجازر، فقد باتت أكثر من أن تُحصى، فما كان من هؤلاء المواطنين إلّا أن دافعوا عن أنفسهم، تماماً كما هم اليوم يدافعون عن أعراضهم وبيوتهم، بأسلحتهم البسيطة، بعد أن تخلّت عنهم جيوش وفصائل وقيادات وكيانات سياسية، كانت تدّعي حمايتهم في يوم ما، ولم تكن – في الأصل – سوى أدوات تنفيذية لأجندات غير وطنية.
لقد ناهض الوسط الشعبي الثائر، مسار أستانا منذ انطلاقته في مطلع العام 2017 ، وكان يدرك بحسّه العفوي، أن هذا المسار الموبوء لن يثمر سوى الكوارث، وقد بان هذا الرفض بوضوح من خلال التظاهرات التي كانت تخرج في جميع المناطق التي هي خارج سلطة الأسد، وكنتم – آنذاك – أيها السادة، تصفونها بالمظاهرات الشعبوية والمأجورة، بل اتهمتموها بالعمالة لنظام الأسد، وها هي إدلب اليوم، على وشك أن تلحق بسابقاتها ( القصير – الغوطة – درعا ) لتكون مناطق ( خفض التصعيد) المنكوبة، هي المُنجز الأهم في مسار أستانا، فهل سيكون الإجهاز على إدلب وما تبقى من أرياف حلب شرطاً مؤسِّساً لنجاح مسار اللجنة الدستورية؟
في أرياف إدلب وشمال حماة، وريف حلب الغربي، ما يقارب أربعة ملايين مواطن مدني، ينتمي هؤلاء إلى جميع المحافظات السورية التي نزح قسم من سكانها هرباً من بطش الأسد وأعوانه، وقد عانى هؤلاء على مدى خمس سنوات، شتى أنواع الجور والاضطهاد، جرّاء تسلّط القوى الظلامية الإرهابية على بلداتهم ومدنهم وقراهم، واليوم يضعهم بوتين وبشار الأسد أمام خيارين ، كلاهما قاتل، إمّا النزوح نحو المجهول، وإمّا الموت تحت وابل جحيم البراميل وقذائف المدفعية وراجمات الصواريخ. ربما كانت هذه النتيجة المأسوية مُتوقعةً لدى الكثير، بالنظر إلى الإرث الإجرامي لنظام الأسد وأعوانه، ولكن ما لم يكن مُتَوقعاً، هو أن يصبح مليون نازح في العراء إرهابيين، لا تستحق معاناتهم أية التفاتة من سَدَنة الإيديولوجيا والديمقراطية والعلمانية، فضلاً عن أرباب الخلافة.
لقد أتاحت فداحة المأساة السورية عموماً، وإدلب على وجه الخصوص، لكثير من مدّعي الحداثة والعلمانية، حيّزاً واسعاً لإبراز البعد الوطني، بل الأخلاقي، لِما تراكم في أسفار عقائدهم، إلّا أن الوقائع تشهد أن ( الدَّعْشنة ) ما تزال تستبطن جميع الإيديولوجيات ذات الخواء الإنساني.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت