انشغل متابعو الشأن الاقتصادي السوري، خلال الأيام القليلة الفائتة، بالبحث في السعر الحقيقي لصرف الليرة السورية، في ضوء قفزات أسعار السلع في الأسواق، والتي دفعت إلى التشكيك في سعر صرف السوق السوداء الرائج حالياً، رغم أنه هوى إلى أدنى مستوى منذ عام، لتخسر الليرة 8.21% من قيمتها، منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، في 24 شباط/فبراير الفائت.
وفيما أغلق “دولار دمشق”، مساء أمس الأربعاء، قرب 3950 ليرة سورية، يعتقد متخصصون أن سعر الدولار بسوريا يجب أن يكون أعلى من ذلك بكثير. وتذهب تقديرات إلى أن سعره يجب أن يتراوح ما بين 5 إلى 6 آلاف ليرة. وهذه الآراء لا نقرأها فقط في وسائل إعلام مُعارضة، بل نجدها أيضاً في تقديرات أكاديميين اقتصاديين، تنشرها وسائل إعلام موالية، من بينها صحيفة “الوطن” المقرّبة من النظام، والتي نقلت عن نائب عميد كلية الاقتصاد بجامعة دمشق، الدكتور علي كنعان، تقديراً مفاده أن التجار يسعّرون بضائعهم بدولار يساوي 10 آلاف ليرة سورية.
الرقم الأخير كان أكثر التقديرات جرأةً، في التشكيك بسعر صرف السوق السوداء. وطرحه الأكاديمي الاقتصادي في معرض انتقاده لإصرار مصرف سورية المركزي على تسليم الحوالات للسوريين بسعر دولار لا يتجاوز 2500 ليرة سورية، فيما أسعار السلع في الأسواق تحلّق، ليجني التجار مكاسب ذلك، وفق وصفه. لكنه رغم ذلك، يبدو رقماً مبالغاً فيه. فكيف يمكن تقدير السعر الحقيقي لصرف الليرة مقابل الدولار؟
يستند متخصصون إلى سعر “دولار الذهب”، بوصفه دليلاً على أن سعر “دولار دمشق” في السوق السوداء، غير حقيقي. وللتحقق من دقة هذا المؤشر، دعنا نحتسب “دولار الذهب”.
ظهيرة أمس الأربعاء، حددت جمعية الصاغة بدمشق، غرام الـ 21 ذهب، بـ 205000 ليرة سورية، بالاستناد إلى سعر أونصة عالمي قدره 1924 دولاراً. ووفق معادلة احتساب “دولار الذهب”، نجد أنه بقيمة 3788 ليرة سورية. أي أنه أقل من سعر السوق السوداء – 3950 ليرة للدولار-. وحتى لو لجأنا لسعر الذهب غير الرسمي –بعد إضافة قيمة أجرة الصياغة-، ووفق موقع “الليرة اليوم”، المتخصص برصد أسعار العملات والذهب بسوريا، فإن سعر غرام الـ 21 ذهب، ظهيرة أمس الأربعاء، كان بحدود 213260 ليرة سورية. وبالاستناد إلى سعر الأونصة نفسه، نجد أن “دولار الذهب” بـ 3940.50 ليرة سورية. وهو أقل بنحو 10 ليرات عن سعر السوق السوداء. وهكذا نجد أن “دولار الذهب” كمؤشر، لا يدعم نظرية أن السعر الحقيقي لليرة أقل بكثير من سعرها في السوق السوداء.
وهنا، نجد رأياً رائجاً في تفسير ذلك، مفاده أن النظام عبر أدواته في سوق الصرافة يستطيع التحكم في سعر الصرف. وهو رأي لا نجد دعماً له إذا استندنا إلى سعر الدولار في إدلب، غير الخاضعة للنظام، والتي تتمتع بسوق عملة “عائم”. إذ سجل “دولار إدلب”، مساء أمس الأربعاء، 3925 ليرة سورية. أي أنه كان أقل من نظيره في دمشق -3950 ليرة سورية-. وإن كان ذلك لا ينفي تدخل النظام في سوق الصرافة، لكن الحديث عن تحكمه بها، تشوبه المبالغة، كما يُظهر سعر الدولار في سوق حرّة، كـ إدلب.
هل ما سبق يعني أن سعر الدولار في السوق السوداء بسوريا، سعر صرف حقيقيّ؟ دون شك، الإجابة هي، لا. لكن يجب علينا أن نعتمد مؤشرات استدلال مناسبة، بهذا الخصوص. فسعر الصرف الرائج في السوق، هو ما يُعرف نظرياً بـ “سعر الصرف الاسمي”. فيما يشير الاقتصاديون إلى سعر صرف آخر، “حقيقي”، يُستدل عليه من مقارنة القدرة الشرائية للعملة نفسها، بين دولتين. هذه المقارنة تتطلب وجود معطيات قابلة للقياس، من قبيل، مؤشر أسعار المستهلك، وهي مؤشرات لا توفرها سلطات النظام. لذلك، يلجأ الاقتصاديون في سوريا عادةً إلى أساليب أقل دقة، من الناحية الحسابية، لكنها مناسبة للاستدلال، وليس لإعطاء قيمة دقيقة لسعر الصرف. من ذلك، مؤشر تغيّر أسعار السلع.
وبهذا الصدد، قد يفيدنا احتساب نسبة تغير سعر الصرف في السوق السوداء، ومقارنته بنسبة تغير أسعار سلع رئيسية في السوق، خلال عام. وبالعودة إلى أسعار الصرف قبل عام، نجد أن “دولار دمشق”، أغلق مساء 30 آذار/مارس 2021، عند 3680 ليرة للدولار الواحد. ومقارنة بسعر إغلاقه أمس الأربعاء -30 آذار/مارس 2022-، تكون نسبة تراجع الليرة خلال عام، نحو 7.33% فقط.
بالمقابل: كيف تغيرت أسعار السلع في سوريا، خلال عام؟
في نيسان/أبريل من العام الفائت، قالت صحيفة “قاسيون” -التي يصدرها حزب الإرادة الشعبية، الذي يقوده، قدري جميل، المقرّب من موسكو- إن تكاليف معيشة أسرة مكونة من خمسة أشخاص، في دمشق، سجلت نحو مليون ليرة سورية، شهرياً. وفي نهاية العام الفائت، حدّثت الصحيفة الرقم المشار إليه، ليتجاوز 2 مليون ليرة سورية. مع الإشارة إلى أن الأسعار ارتفعت منذ بداية العام الجاري، بصورة كبيرة، تذهب بعض التقديرات إلى أنها قد تصل إلى 50%، لبعض السلع الأساسية.
لكن، إن تجاهلنا حسابات “قاسيون”، التي قد يتهمها البعض بالمبالغة، يمكن الاستناد إلى مؤشر تحرك أسعار سلع رئيسية، خلال عام.
كيلو السكر مثلاً، كان قبل عام بنحو 2700 ليرة، وأصبح اليوم بنحو 3500 ليرة. أي أنه ارتفع بنسبة 29.62%. والرز العادي، كان قبل عام بنحو 3000 ليرة، وأصبح اليوم بنحو 4500 ليرة. أي أنه ارتفع بنسبة 50%. أما كيلو الفروج فارتفع خلال عام من 5000 ليرة إلى أكثر من 10 آلاف ليرة. أي بنسبة ارتفاع قدرها 100%.
فيما ارتفع كيلو لحم الغنم من 25 ألف ليرة إلى نحو 40 ألف ليرة، أي بنسبة ارتفاع قدرها 60%. وارتفع كيلو لحم العجل من 23 ألف ليرة إلى نحو 28 ألف ليرة، أي بنسبة ارتفاع قدرها 22%.
مما سبق، نجد أن أقل السلع ارتفاعاً في السعر – وهي لحم العجل-، زادت بنسبة تعادل 3 أضعاف نسبة تراجع قيمة الليرة. مما يؤكد صوابية التشكيك بدقة سعر الصرف الرائج في السوق، بوصفه يعبّر عن القوة الشرائية الحقيقية لليرة السورية. وإذا اعتمدنا نسبة زيادة سعر لحم العجل، فإن سعر صرف “دولار دمشق” يجب أن يكون الآن، بحدود 4490 ليرة سورية، وليس 3950 ليرة سورية.
بطبيعة الحال، الرقم المستنتج آنفاً، يبقى للاستدلال، وهو غير دقيق، إذا يتطلب استخراج الرقم الدقيق، توافر مؤشر موثوق لأسعار المستهلك بسوريا، والذي يصدر عادةً من جهات رسمية. لكن يبقى أن الرقم الاستدلالي الذي خلصنا إليه، يدعم النظرية التي تقول إن سعر الصرف الرائج في السوق السوداء لا يعبّر عن القيمة الحقيقية لليرة السورية. ويدفعنا إلى خلاصة أبعد، مفادها، أن إصرار المركزي السوري على تثبيت سعر الصرف، بأساليب غير اقتصادية، من بينها، تجفيف السيولة من السوق، لم ينعكس إيجاباً على أسعار السلع، ومعدلات التضخم. فمعيشة السوريين تتراجع بنسبٍ أعلى بكثير، من نسب تراجع سعر الصرف.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت