تهاوت قيمة الليرة السورية خلال الأسابيع الماضية إلى مستويات غير مسبوقة، إذ كسرت حاجز الـ16 ألف مقابل الدولار الأمريكي الواحد، ما انعكس على أسعار جميع السلع التي يحتاجها المواطنون بشكل يومي.
وفي الوقت الذي ما يزال فيه هذا التهاوي مستمراً مع أنها شهدت تحسناً طفيفاً قبل يومين، يرجح خبراء اقتصاديون أن تصل إلى مستويات قياسية جديدة، لعدة أسباب واعتبارات.
ومنذ أن تجاوزت 9000 ليرة مقابل دولار أمريكي واحد في 11 مايو/أيار، ظلت قيمة الليرة في حالة انخفاض حر منذ أشهر.
في حين يأتي الانخفاض الأخير بعد أن فقدت الليرة السورية حوالي 30 في المئة من قيمتها خلال فترة شهرين في يوليو/تموز الماضي وحده.
لماذا تتهاوى باستمرار؟
ويوضح حسين شكر، محلل السياسات والاقتصاد السياسي في سورية ولبنان أن “انخفاض قيمة العملة السورية كان نتيجة لدورة الركود التضخمي المستمرة التي تجتاح اقتصاد البلاد”.
ويضيف في تصريحات لموقع “ميدل إيست آي“: “تظهر هذه الدورة عندما يتزامن التضخم المتفشي مع الركود الاقتصادي وارتفاع معدل البطالة”.
“في الوقت الحالي، فإن فهم الأصل الدقيق لهذه المحنة الاقتصادية يمثل تحدياً كبيراً، لا سيما بالنظر إلى السياق السوري، وهو معقد بشكل فريد بسبب التقارب الطويل بين المتغيرات الاقتصادية والنقدية والسياسية”.
ووفقاً لشكر، هناك العديد من العوامل المحلية والدولية المؤثرة.
أولى هذه العوامل العقوبات الدولية الثقيلة، والبلد الفقير بالفعل الذي تفاقم بسبب الأضرار التي خلفها زلزال فبراير/شباط.
كما ساهم الارتفاع السريع في أسعار الوقود وعوامل أخرى في الانحدار الهبوطي لليرة.
“عدم الاستقرار الداخلي”
ويشير الباحث شكر إلى أن المخاوف داخل السوق المحلية، التي تغذيها انخفاض قيمة الليرة، قد أوقعت العملة “في شرك دورة من الانخفاض والتضخم”.
ويتابع: “من المؤسف أن البنك المركزي يمتلك أدوات محدودة لمعالجة هذا الذعر المتصاعد”، بينما “تفاقمت الأمور مع تصاعد المناقشات بشأن خفض الدعم للسلع الأساسية، وخاصة الوقود، مما أثر بالتالي على أسعار العناصر المرتبطة بمشتقات الوقود عبر سلسلة الإنتاج”.
ويقول الباحث إن خسارة النظام السوري لمناطقه المنتجة للنفط في شمال شرق البلاد، و”عجزه عن الإشراف على احتياطياتها من النفط والغاز والاستفادة منها كوسيلة لتعزيز احتياطياتها من العملات الأجنبية، قد أدى إلى تفاقم الانهيار المالي في البلاد”.
ويضيف: “خاصة أن الاحتياطيات تخضع لسيطرة الإدارة الذاتية التي يقودها الأكراد والقوات الأمريكية”.
“السياسات المتعارضة والمتضاربة أحياناً التي اعتمدها مجلس النقد والائتمان، إلى جانب سياسات وأنظمة وزارة المالية، لم تنجح في حل المشكلة، إن لم تكن تؤدي إلى تفاقمها”، وفق ذات الباحث.
“العقوبات الدولية”
ومنذ الثورة المناهضة للأسد في سورية عام 2011 والتي تحولت فيما بعد إلى صراع مسلح، فرض المجتمع الدولي عقوبات صارمة على النظام السوري، واستهدفت بعض هذه العقوبات القطاع المصرفي.
ويقول شكر: “لقد شكلت العقوبات الأحادية ضغوطاً على الاقتصاد السوري، مما أعاق قدرته على الوصول إلى السوق الدولية”.
وأضاف أن ذلك يعيق تنمية الصادرات السورية وتدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى السوق المحلية.
لكن العقوبات الدولية العقابية لم تكن وحدها هي التي أثرت على الاقتصاد السوري.
إذ أدت الزلازل المدمرة التي ضربت تركيا وسورية في 6 فبراير/شباط إلى تفاقم الأزمة الاجتماعية والاقتصادية في سورية، وأثارت جدلاً حول العقوبات الدولية التي تعيق إيصال الإغاثة الإنسانية والمساعدات إلى سورية.
وتسبب الزلزال في أضرار مادية مباشرة تقدر بنحو 5.1 مليار دولار في سورية، وفقاً لتقرير التقييم العالمي السريع الصادر عن البنك الدولي.
وتسبب في انكماش الناتج المحلي الإجمالي لسورية بنسبة 5.5 في المائة في عام 2023 بسبب تعطيل النشاط التجاري الذي أحدثه الزلزال، وتدمير رأس المال المادي.
فضلاً عن الارتفاع اللاحق في التضخم الذي كان مدفوعاً بزيادة الطلب على مواد إعادة الإعمار، ونقص الوقود، وانخفاض السلع، وزيادة في تكاليف النقل، بحسب البنك الدولي.
“الأزمة المالية اللبنانية”
كما ساهمت الأزمة المالية في لبنان المجاور في انخفاض قيمة الليرة السورية.
وقد ظهر التأثير بشكل ملموس في أكتوبر/تشرين الأول 2019، عندما توقفت البنوك اللبنانية عن السماح لعملائها، وكثير منهم سوريون، بسحب أو شراء الدولار الأمريكي.
ومن بين أكثر من مليون سوري يعيشون في لبنان، تعتمد الأغلبية على النقد في كل شيء حيث لا يُسمح لهم بفتح حسابات مصرفية.
ويقول شكر: “كان الاقتصاد اللبناني في السابق بمثابة المورد الرئيسي للعملة الأجنبية للسوق السورية”.
ويضيف: “إن انخفاض المعروض من العملات الأجنبية من لبنان، إلى جانب الارتفاع المستمر في الطلب على الدولار الأمريكي، أدى إلى حدوث اضطراب كبير في سوق العملات الأجنبية”.
ومنذ عام 2011، ظلت روسيا الحليف الأكثر ثباتاً لحكومة الأسد، وفي عام 2015، تدخلت في سورية لإبقاء الأسد في السلطة.
في المقابل، حظي الغزو الروسي لأوكرانيا بدعم من حكومة الأسد، حيث ذهب التحالف إلى حد أن دعوة روسيا للمتطوعين للقتال إلى جانب جيشها أدت إلى حملة تجنيد في سورية، وفقاً لتحقيق أجراه موقع “ميدل إيست آي”.
واعتبر شكر أن الحرب الروسية الأوكرانية “أعاقت الدعم المالي الذي تقدمه موسكو لدمشق”.
وتسببت الحرب الطويلة في أوكرانيا في ارتفاع أسعار القمح، وهو مستورد أساسي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وارتفعت أسعار القمح في يوليو/تموز بعد انسحاب روسيا من صفقة الحبوب الأوكرانية.
ويمكن للحرب أن تدفع أسعار السلع الأساسية إلى الارتفاع، مما يؤدي إلى تآكل مكانة سورية كمستورد للغذاء والطاقة، وفقا للبنك الدولي.
وفي نهاية المطاف، أدت الحرب في أوكرانيا إلى تآكل الاقتصاد السوري.
ويشير شكر إلى تأثير الحرب على الليرة السورية بقوله: “لقد أدى الصراع إلى تعطيل سوق المواد الغذائية العالمية، مما زاد من حدة الضغوط التضخمية داخل السوق السورية الهشة والحساسة بالفعل”.
وفي حديثه أمام “مجلس الشعب” حول الاضطرابات الاقتصادية في تموز/يوليو، قال رئيس حكومة الأسد، حسين عرنوس في بيان نُشر على فيسبوك: “إن أصعب مشكلة اقتصادية نواجهها هي كيفية إدارة الفجوة بين الموارد المحدودة والاحتياجات غير المحدودة”.
وأضاف: “مع تحرك الحكومة لضبط سعر الصرف وتقييد السيولة في الأسواق للحفاظ على القوة الشرائية للعملة الوطنية والحفاظ على المستوى العام للأسعار في البلاد، فإن هذا التوجه سيترافق مع تراجع النشاط الاقتصادي وتقييد حركة التنقل”.
“ماتزال راكدة”
ويوضح الباحث شكر أن الواقع هو أن “قدرة الحكومة السورية على المعالجة الفعالة للعوامل المحلية والدولية التي تؤدي إلى انخفاض قيمة الليرة مقيدة بشدة”.
ويقول: “تقتصر أدوات الحكومة على محاولة الحد من انخفاض قيمة العملة من خلال تجميع المزيد من العملات الأجنبية وتعطيل سلسلة التوريد في سوق الصرف الأسود غير القانوني”.
ومع عودة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية بعد 11 عاماً من التعليق، دعمت الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية الجهود التي شهدت تطبيع العلاقات مع الأسد.
وبعد تعليق عضوية النظام في عام 2011 بسبب حملته الوحشية ضد الاحتجاجات المناهضة للأسد، كان هناك تفاؤل أولي بشأن بعض الانفراج الاقتصادي.
لكن الليرة لا تزال راكدة بشكل خطير.
ويضيف الباحث: “كان الاقتصاد السوري يعلق الآمال على التدخل العربي المحتمل بعد المصالحة الدبلوماسية الأخيرة والتطبيع بين الدول العربية وسورية”.
“ومع ذلك، فإن عدم القدرة على التوصل إلى إجماع واتفاق بشأن المصالح والاحتياجات والمطالب بين أصحاب المصلحة المعنيين قد أصاب الحكومة السورية بالإحباط”، حسب ذات الباحث.