بينما كانت الفرقة الرابعة التابعة لماهر الأسد تحاصر وتقصف درعا البلد، كان المفاوض الروسي ينقل إلى مفاوضيه من الأهالي شروط فك الحصار ووقف إطلاق النار. الدور الروسي، مهما وصف بالضامن أو الوسيط، كان متمماً لآلة الحرب ومتناغماً معها، ووزير الخارجية لافروف كان واضحاً في مؤتمره الصحافي مع نظيره الإسرائيلي عندما قال أن درعا “وغيرها من الأراضي السورية” ينبغي أن تكون خاضعة لسيطرة “الجيش العربي السوري”. ثمة تطابق في مفهوم السيادة بين موسكو والأسد، إذ يراها الطرفان من منظار السيطرة العسكرية والإرغام، لا من منظار قبول الأهالي بها أو تقديم ما يغريهم بالقبول.
لعل التطابق في الأهداف بين الجانبين الروسي والأسدي يعيد طرح السؤال حول تولي الأول منهما مهمة التفاوض مع أهالي درعا، وهي لم تكن المرة الأولى في درعا أو سواها، فلماذا لا يفاوض ممثلو بشار مباشرة؟
السؤال ذاته يطل عند التذكير بمفاوضات مشابهة مع فصائل محلية، قبل التدخل العسكري الروسي، تولى الإيرانيون قيادتها وتقديم الضمانات المتعلقة بالالتزام بها. بل يُذكر أن ممثلين عن الفصائل أو الأهالي في بعض المناطق راحوا حينذاك يطالبون بوجود الإيراني كدلالة على جدية التفاوض من قبل الأسد، وكضمانة لتنفيذ ما يُتفق عليه. آنذاك كان “الحاج” الإيراني يأتي مع مترجم خاص رفقة الضابط الأسدي المفاوض، ويتدخل أحياناً عندما يتعنت الضابط فيهمس له بما يتوجب عليه قوله، أو يخالف ذلك الضابط عندما يقول أنه سيراجع قيادته لأنه لا يستطيع اتخاذ القرار، فيملي عليه الحاج القرار كمن يعلن أنه هو صاحبه الفعلي.
تصح دائماً الإجابةُ بأن الأسد منزوع السيادة يفسّر لنا قيام الإيراني ثم الروسي بالتفاوض نيابة عنه، بل تباريهما في إظهار سطوة كل منهما عليه. لكن التفريط بالقرار والسيادة لا يفسّر وحده قيام الوصيين بالتفاوض في حالات لا تحمل رمزية أو خصوصية لهما؛ الروسي مثلاً لا يحتاج أن يفاوض أهالي درعا ليثبت للعالم إمساكه بالقرار، فقد أثبت ذلك في مناسبات أهم مثل مسار أستانة وحتى مسار اللجنة الدستورية. انعدام ثقة المفاوضين عن الأهالي أو المقاتلين يفسّر مطالبتهم بالمفاوض الإيراني ثم الروسي، وانعدام الثقة إذ يشرح جانباً من الأمر فهو يفتح على سؤال انعدام الثقة ومعناه في حالتنا.
من المعلوم أيضاً أن الأسد لا يريد ثقة محكوميه، هو يريد خوفهم منه وإذعانهم غير المشروط له. غير أن الخوف والإذعان لا يحتمان استخدام فائض القوة طوال الوقت، لأن من تدابير الاستبداد استخدام مختلف أنواع القوة، الخشنة والمتوحشة والذكية والناعمة. قسمة السنوات الأخيرة هي بالأحرى مهينة لسلطة الأسد إذ تجعلها مختصة بالقوة المتوحشة، بينما يستخدم الروسي والإيراني أنواعها المختلفة. إنها سلطة صف ضابط المخابرات الصغير، تؤدي دور الجلاد فحسب، الجلاد الذي يعمل بصمت دولي وبإشراف وصيين مسؤولين بالمطلق عن المستوى السياسي، وعن كيفية استثمار وحشيته سياسياً.
من عرفوا الأخوين الأسد عن كثب يقولون أن استخدام العنف على النحو الذي رأيناه يناسب ما لديهما من بأس ومن احتقار للسوريين، ومن نوازع انتقام بلا حدود متضافرة مع ذلك الاحتقار. هذه المعرفة تضيء على جوانب شخصية ما كان لها أن تتحكم لو لم تكن السلطة عائلية بالمطلق، أي أنها ليست تلك السلطة التي تتربع العائلة على رأس هرمها أو في مركز دائرتها. إنها ليست نظاماً مبنياً على سلطة العائلة، هي سلطة العائلة بكل ما تحمله الكلمة من محدودية وضحالة التركيبة، ومن فقدانها خبرات الدوائر المحيطة بها التي تجعل منها نظاماً.
من الشائع استخدام تعبير “نظام الأسد”، على سبيل الذم غالباً، وهو للحق تعبير يمتدح سلطته بما لم يعد فيها بعد أن تم تجريفها مما كان يجعلها قريبة من شبهة النظام. ربما كان آخر تجليات النظام، أيضاً مع بعض التحفظ على التعبير، ما عُرف آذاك بخلية الأزمة، والتي تم تفجيرها قبل تسع سنوات في حادثة غامضة يُرجح أن يكون للأخوين دور فيها، وقد لا تكون طهران بعيدة عن تدبيرها.
أودى التفجير كما هو معلوم بوزير الدفاع داوود راجحة، وبنائبه آصف شوكت صهر الأسد، وبرئيس خلية الأزمة اللواء حسن تركماني ورئيس مكتب الأمن القومي هشام أختيار، وكان بشار قد أقال قبل نحو سنة وزير الدفاع الأسبق علي حبيب، وقيل أن معارضة الأخير الزج بالجيش لقمع الثائرين كانت سبب إقالته. من بين القتلى كان يبرز اسم آصف شوكت كمرشح محتمل فيما لو أُقصي بشار، واسمه قد بدأ يتردد كخليفة محتمل على خلفية التداعيات الأولى لاغتيال الرئيس رفيق الحريري. هشام أختيار بدوره لم يكن خارج دائرة الاحتمالات وكذلك العماد المُقال علي حبيب، وما يجمع هذه الشخصيات أنها إبنة النظام، ويُفترض بها أن تكون قادرة على الحفاظ عليه والإمساك بمفاصله في حال نُحِّي الأسد، فلا يتحقق سيناريو الفوضى الشاملة بسقوط العائلة.
واحد من علامات النظام وجود خلفاء محتملين، بصرف النظر عن دقة التكهنات حولهم، وما إذا كانوا مؤهلين حقاً. كلّ من هؤلاء من لم يرث مكانته، بل حصل عليها أو انتزعها ضمن شروط النظام الذي أسسه يوماً الأسد الأب، وهم ضباط جيش أو مخابرات لكن سمعتهم لم تقترن بشخصية الجلاد فحسب. ما قيل مثلاً عن رفض حبيب لزج الجيش يندرج في إطار فهمٍ يتعدى كونه مجرد موظف، وما أِشيع عن اتصالات بين شوكت وباريس غداة اغتيال الحريري يتطلب مهارة ما فوق طموحه الذي أوصله إلى مصاهرة العائلة، وكذلك حال ضابط المخابرات العتيق هشام أختيار الذي كان قد كبر على شخصية الجلاد، وصار أكثر تفهماً “من موقعه المخابراتي” لاستخدام مختلف أنواع القوة، بما فيها القوة الناعمة أو الحوار مع معارضين، أو على الأقل عدم البطش بالجميع معاً بنهج الأرض المحروقة.
ذلك ليس امتداحاً للمذكورين أعلاه، فالتغيير المطلوب دولياً من سلطة الأسد لا يفوق “مهاراتهم”، أي أن تتحلى السلطة بالحد الضروري من السياسة، الحد الذي يجعلها نظاماً. ما يُعتبره البعض مذمة هو ما يُطلب من الأسد؛ أن يكون نظاماً وأن يكون مثلاً قادراً على التفاوض في درعا أو القامشلي…، أن يكون له نصيب ولو متدنٍّ من السياسة، وأن يحوز على قدر من الثقة بتعهداته. لا تكابر السلطة عندما لا تلبي المطلوب، عندما يفاوض الإيراني أو الروسي بدلاً منها هنا وهناك، فالعلة في عجزها الأصيل عن أن تستعيد شبهة النظام.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت