أهدى وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو واشنطن قبل زيارتها بأيام، نبأ إرجاء الاجتماعات الثلاثية المقررة بينه وبين نظيره الروسي سيرغي لافروف ووزير خارجية النظام في دمشق فيصل المقداد إلى شهر شباط المقبل. هذه الهدية الثانية بعد يومين من موقف تركي يقول إن موعد اللقاء بين أردوغان والأسد برعاية روسية لم يتحدد بعد، وإن الوصول إلى لقاء من هذا النوع يحتاج إلى إنجاز خريطة الطريق السياسية التي تحدثت عنها القيادات التركية أكثر من مرة.
حتما ليس التصعيد الأميركي ضد خطوة الانفتاح التركي على النظام في دمشق هو ما دفع أنقرة للتريث. بل منح فريق عمل الرئيس بايدن فرصة جديدة لطرح مواقف بديلة عن المعلنة والمكررة في التعامل مع الملف السوري يعود بها جاويش أوغلو من زيارته التي ستكون صعبة وحاسمة بالنسبة للطرفين. خصوصا أن البيت الأبيض من ناحيته لم يتأخر في قرار الاستعداد للانفتاح والتعاون عندما أعلن أن طلب بيع تركيا مقاتلات حديثة من طراز أف – 16 سيعرض على الكونغرس الأسبوع المقبل خلال وجود الضيف التركي في العاصمة الأميركية.
لكن ما قد يقلب كل السيناريوهات رأسا على عقب هو قرار وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان الذي يزور دمشق بأن يعرج على أنقرة بهدف التحضير لزيارة الرئيس الإيراني المعلن عنها في طهران رغم التجاهل التركي. قدومه في هذه الآونة يترجم باتجاه وعدم مجيئه يترجم باتجاه آخر.
يعرف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لاعب كرة القدم المحترف أن تلافي الخسارة في هذا النوع من الرياضات سهل وسريع. من الممكن تغيير المشهد ورفع المعنويات بعد أسبوع واحد فقط على الهزيمة. يعرف أكثر وهو في العمل الحزبي والسياسي منذ نحو 5 عقود أن الأمور تختلف في السياسة. هزيمة انتخابية تحتاج إلى 4 سنوات من الانتظار على أقل تقدير، وهذا ما لا يريده “حزب العدالة والتنمية” وقياداته أن يعيشوه مرة أخرى في واحدة من أصعب الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي تنتظر تركيا خلال أشهر.
نجح حزب العدالة في استرداد بعض النقاط التي فقدها لأسباب اقتصادية وسياسية والالتفاف على أخطاء ارتكبها في ملفات إقليمية. الملف السوري بشقيه الداخلي والخارجي يحظى بالأهمية الثانية حسب الناخب التركي، ومن الضروري إطلاق سياسة جديدة متعددة الأهداف والجوانب وهذا ما فعله الحزب الحاكم أيضا. ليس من مصلحته الذهاب إلى الصناديق والناخب مشتت الذهن في ملفين تحديدا: الملف السوري ومساره ومستقبله. وملف العلاقات التركية الأميركية الذي بدأ يترك آثاره على أكثر من قضية تعني تركيا وأمنها ومصالحها الثنائية والإقليمية مع واشنطن. أهمية زيارة وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إلى العاصمة الأميركية بعد أيام تندرج في هذا الإطار.
نشرت مجلة “فورين بولسي” قبل أيام ونقلا عن مصادر أميركية وأوروبية نبأ بيع أنقرة لكييف قنابل عنقودية ترجع لحقبة الحرب الباردة، بعدما رفضت الولايات المتحدة تقديم هذا النوع من القنابل لأوكرانيا كما زعمت المجلة. ردت تركيا وروسيا وأوكرانيا على هذه “الأنباء المضللة” لكنها حتما رسالة أميركية لا يمكن فصلها عن التقارب التركي الروسي المتعدد الجوانب، وما يعكس حقيقة استمرار تبادل الرسائل التركية الأميركية على أكثر من جبهة.
تبحث واشنطن عن مقايضة تركية أميركية قد تصل إلى المساومة على ورقة “قسد”، مقابل تحول في مواقف وسياسات تركيا الإقليمية في مواجهة النفوذ الإيراني والغزل اليومي مع روسيا. لكن أنقرة تريد أكثر وأبعد من ذلك. ضرورة “واقعية” نظام الأسد في مطالبه وحواره مع الجانب التركي التي تحدث عنها جاويش أوغلو قبل أيام، يقابلها مطلب الليونة والمرونة والتعاون الأميركي الذي لا بد منه حيال ما تقوله وتريده أنقرة في ملفات اليونان وشرق المتوسط والتوسعة الأطلسية والعلاقات التجارية.
لا يمكن الفصل بين سؤال لماذا لم تحرّك أنقرة قوّاتها لتنفيذ عملية عسكرية برّيّة في شمال شرق سوريا أعلن عنها مجددا بعد تفجير “تقسيم” الإرهابي في 13 تشرين الثاني المنصرم؟ وبين تساؤل هل بمقدور أنقرة وموسكو صناعة مشهد سياسي أمنيّ في سوريا دون التنسيق مع واشنطن والأخذ بما تقوله وتريده هناك؟ جاويش أوغلو في واشنطن سيحاول الحصول على إجابات أميركية تتعلق بالسؤالين إلى جانب أسئلة أخرى يتقدمها هل ستتحسن العلاقات وتعود إلى سابق عهدها أم أن بايدن مصر على استهداف التقارب والتنسيق التركي الروسي كشرط أساسي يسبق أي انفتاح جديد بين أنقرة وواشنطن؟
تريد قيادات “العدالة والتنمية” حتما أن تسجل اختراقا في ملف العلاقات التركية الأميركية قبل الذهاب إلى الصناديق مما سيزيد من ثقلها السياسي والشعبي. وبعد تقدم قناعة أن خيار الحوار والحلحلة السياسية في ملفات كثيرة هو الأفضل لمنع تراجع العلاقات أكثر من ذلك. ما يحمله جاويش أوغلو إلى واشنطن قد يكون سلة مقايضات وصفقات في الكثير من الملفات. فأنقرة تريد أن تعرف أيضا نوع العروض الأميركية النهائية في الملفات التي أدت إلى التوتر والتباعد في شرق الفرات بكل تفرعاته والانفتاح التركي الروسي على أكثر من جبهة وشروط تركيا في مسألة التوسعة الأطلسية وهل ستواصل واشنطن سياسة الانحياز الكامل إلى الجانبين اليوناني والقبرصي اليوناني في إيجه وشرق المتوسط؟
لكن العرض – المفاجأة الذي قد يحمله معه الوزير التركي هو إنجاز اختراق سياسي في ملف الحرب الأوكرانية عبر محادثات أميركية – روسية لا بد منها على طريق الحلحلة وتليين المواقف في حرب تتسع رقعتها يوما بعد آخر وتتزايد مخاطر ارتداداتها الإقليمية والدولية، وهو الإنجاز السياسي الأهم بالنسبة لأردوغان اليوم.
لا يمكن هنا نسيان “حصة” إيران في كل هذه النقاشات التركية الأميركية. فطهران التي استفادت من تدهور علاقات تركيا مع العديد من دول المنطقة ومع عواصم غربية لسنوات. في حالة من التوتر والقلق بعد التموضع التركي الإقليمي الأخير وشعورها أن ذلك سيكون على حساب مصالحها ونفوذها في المنطقة. ما يقلقها أكثر هو الدور الغربي العربي الإسرائيلي في زيادة التباعد التركي الإيراني على أكثر من جبهة يتقدمها جنوب القوقاز وسياسة إيران الخليجية وخطط سحب البساط من تحتها في سوريا والعراق.
يقول أحدث استطلاعات الرأي التركية أن 60 بالمئة من المستطلعين الأتراك يدعمون خيار الحكم في الحوار مع نظام بشار الأسد. نسبة الثلثين منهم محسوبة على التيارات القومية وعلى أنصار حزب العدالة الحاكم. قوى المعارضة التركية راضية عن هذا التحول الذي كانت تطالب به منذ أعوام. كيف ستنجح القيادات الأميركية في قلب المعادلات وما الذي ستقدمه لأنقرة لإقناعها بالتخلي عن هذا التحول الجديد في سياستها السورية؟ أم هي تدعمه في الخفاء وهذه هي رغبتها الحقيقية؟
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت