إذا أردنا قراءة مشهد حراك الصناعيين في سوريا ضد تسعيرة الكهرباء الجديدة، ورد فعل الحكومة عليه، من زاوية اقتصادية – اجتماعية، فسنخرج بثلاث دلالات على الأقل. الأولى، تتعلّق بتلك القوة التنظيمية التي ما تزال قائمة لممثلي رأس المال الوطني.
فذاك الحراك الذي بدأ مشتتاً –تحديداً من حلب-، قبل أربعة أسابيع فقط، سرعان ما انتظم في حراكٍ جماعيّ لشريحة الصناعيين في مختلف مناطق سيطرة النظام. ووصل إلى مستوىً أكثر تكثيفاً مع الاجتماع الموسّع الذي عقدوه في فندق شيراتون دمشق، يوم السبت، بحضور أكثر من 300 صناعيّ من مختلف المحافظات، بغية الضغط على الحكومة، لإعادة النظر في أسعار الكهرباء المفروضة عليهم منذ مطلع شهر آذار/مارس الفائت.
وإن كان من المبكر الجزم بتوصّل الصناعيين إلى النتائج التي ترضيهم، إلا أن قدرتهم على الضغط بدت جليّة، إذ تصدرت قضيتهم أولويات الإعلام الاقتصادي المحلي، وتناوب ممثلو غرف الصناعة على منابر هذا الإعلام، والتي أُتيحت لهم على نطاق واسع. ورغم تصريحات وزير الكهرباء التي يمكن اعتبارها رداً سلبياً على مطالب الصناعيين، مطلع الشهر الجاري، إلا أن تمرير صحيفة “الوطن” المقرّبة من دوائر صنع القرار، خبراً يفيد بإعداد دراسة لتخفيض الرسوم المالية على أسعار الكهرباء الصناعية، يؤشّر إلى نتائج أولية لضغط الصناعيين. لكنها غير كافية بالنسبة لهم. فما يريدونه هو خفض أسعار الكهرباء، والتي حلّقت بنسبٍ وصلت إلى 600% -لبعض شرائح الاستهلاك-، بموجب قرار الحكومة الصادر، منتصف شهر شباط/فبراير الفائت.
ونوّع الصناعيون أساليب ضغطهم، والتي كان الإعلام أبرزها. لكنهم استخدموا أيضاً أسلوب التواصل المباشر مع مسؤولي الحكومة، إما عبر الأفراد الممثلين لهم، أو عبر مذكرات احتجاج رسمية تم رفعها باسم غُرف الصناعة، إلى وزارة الكهرباء وإلى رئاسة الحكومة. لكن السلاح الأبرز الذي استخدموه، كان التلويح بإغلاق معاملهم. فصناعيو حلب هددوا بأن نصف مصانع النسيج البالغ عددها 700 منشأة في محافظتهم، سوف تتوقف، إذا بقيت أسعار الكهرباء على حالها. وقالوا إن أكثر من 25 معمل حديد، قد أُغلق بالفعل.
الحراك الجماعي والمنظّم لشريحة الصناعيين، دفاعاً عن مصالحهم، ليس أمراً جديداً. وهي خاصية تنطبق أيضاً على شريحة التجار، الأكثر عراقة، على هذا الصعيد. لكن في المقابل، يغيب أي حراك فعّال لممثلي شرائح المهن، خاصة العمال والفلاحين. وإن كان ضعفُ التنظيمات النقابية في سوريا، بعهد حكم آل الأسد، ليس أمراً جديداً، لكن هذا الضعف وصل إلى مراحل غير مسبوقة، حتى بات يندر أن ترى أي أثر لأي تنظيم نقابي، باستثناء، التصريحات الإعلامية التي لا يرافقها أية نشاطات “ضغط” على الحكومة. وفيما يدافع ممثلو الصناعيين والتجار –بشراسة- عن مصالحهم، ويؤثرون –في معظم الحالات- على الحكومة، يغيب ممثلو اليد العاملة السورية عن المشهد، تماماً. فيزداد رجحان كفّة الشرائح الأقوى في المشهد الاقتصادي – الاجتماعي لبلدٍ يحصل فيه العامل على حدٍ أدنى للأجور، يشكّل 5.5% فقط من متوسط الحد الأدنى لأجور نظرائه في تركيا والعراق والأردن ولبنان.
دلالة أخرى يمكن الوقوف عندها، في سياق متابعة المشادات الإعلامية بين ممثلي الصناعيين والحكومة. إذ كان صوت الصناعيين أعلى، إعلامياً. وحجتهم أقوى. فيما كانت الحكومة هي صاحبة الصوت والحجة الأضعف. فهي لا تملك إلا لازمة تكاليف الدعم التي ما عادت قادرة على تحمّلها. فيما أورد الصناعيون أمثلة بالأرقام، تؤكد أن أسعار الكهرباء في سوريا، لم تعد مدعومة مطلقاً، فهي أعلى من مختلف دول الجوار. بل حتى أعلى من بعض الدول الغربية، كألمانيا، مثلاً. وهو ما يؤكد أن الناظم لطريقة تفكير مسؤولي الحكومة، هو مصلحة الخزينة العامة، على حساب مصلحة الاقتصاد. لذا تعمل الحكومة بعقلية الجابي، وأحياناً، بعقلية التاجر أيضاً، كما في احتكار استيراد وتوزيع المشتقات النفطية من جانب شركة “محروقات” الحكومية. وإن أُتيحت هوامش من هذا الاحتكار لأطراف في القطاع الخاص، فيكون ذلك وفق صفقات مشبوهة، لا تنسجم مع منطق المنافسة، بل مع منطق المحسوبية والفساد.
أما الدلالة الثالثة، فتتعلّق بالإهمال الحكومي للقطاع الإنتاجي. وهو ما ينسجم مع فلسفة النهج الاقتصادي لحكومات عهد الأسد الابن، منذ العام 2000. إذ كان التفاعل أكبر مع القطاعات الخدمية والتجارية والإعمارية، مقابل خفض الدعم للقطاعات الإنتاجية، الزراعية والصناعية. وهو ما جعل سوريا على حالتها الراهنة اليوم. إذ يُرهقها الاستيراد بصورة كبيرة. فيما كانت قبل نحو عقدين، أكثر قدرة على توفير مستلزماتها الأساسية، من مصادر داخلية.
وقضية أسعار الكهرباء الصناعية، نموذج فاقع على مدى استهتار الحكومة بالقطاع الإنتاجي، وانفصالها عن الواقع المتعلّق به. فوزير الكهرباء، الذي يشدد على ضرورة اتجاه الصناعيين نحو الطاقات المتجددة، يتجاهل أن هذا الاتجاه مكلّف ويتطلب بنية تحتية ومرحلة انتقالية لا تقلّ عن سنتين. ناهيك عن الحاجة لقدرة تمويلية عالية، لتنفيذ عملية الانتقال هذه، في وقتٍ يتيح فيه النظام قروضاً بفوائد تصل إلى 25%، لمشاريع التحوّل تلك. وهي قروض غير مجدية اقتصادياً، في بيئة العمل المتاحة بسوريا، اليوم.
وفي الختام، يمكن الإقرار بأن حراك الصناعيين هذا، ورغم أنه ينطلق من وحي مصالحهم بصورة أساسية، إلا أنه يفيد عموم السوريين. إذ أنه في حال انصياع الصناعيين لأسعار الكهرباء الجديدة، فسيحمّلون تكلفتها للمُنتَج النهائي، مما سيزيد من ضعف القدرة التنافسية للمُنتَج السوري. وبالتالي، انهيار المزيد من النشاطات الإنتاجية. وهذا يعني، بطالة أكثر، واستيراداً أكثر، وارتفاعاً أكبر للدولار، ومساراً أكثر قتامة، لأفق الاقتصاد السوري الراهن.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت