كان مثيراً للمشاعر مشهد المظاهرات التي خرجت في ريف إدلب الشرقي يوم الإثنين الماضي للمطالبة بتسهيل عودة النازحين المهجرين إلى منازلهم التي أجبروا على الفرار منها نتيجة الحملتين العسكريتين الأخيرتين للنظام وحلفائه على إدلب نهاية العام الماضي ومطلع هذا العام.
وذكرني المشهد بأهلنا المهجرين من قراهم في مدينة تل رفعت ومحيطها بريف حلب الشمالي منذ سيطرة قوات قسد على هذه المنطقة قبل خمس سنوات، الذين أمضوا الأشهر والسنوات التالية على تهجيرهم وكلهم أمل بعودة سريعة إلى بيوتهم، وبتنظيم المظاهرات والاعتصامات من أجل مطالبة الفصائل والحليف التركي بالعمل على تحقيق هذه العودة، قبل أن يخبو الأمل مع غياب أي مؤشر على أي تحرك بهذا الصدد.
طوفان العودة، هكذا سمّى أهلنا ذلك المشهد في ريف إدلب الشرقي، وهم الذين باتوا اليوم من سكان أقصى الحدود مع تركيا، في مخيمات بائسة تضم أكثر من مليون ونصف المليون منهم، إلا أن هذا “الطوفان” لم يلق الاستجابة المأمولة من قبل المستهدفين بالدعوة، فاقتصرت المشاركة على المئات الذين يتوقون لعودة عاجلة إلى قراهم التي أصبحت محتلة.
لا تفسير لضعف الإقبال هذا، على الرغم من أهمية وحساسية الهدف، سوى استسلام السوريين أكثر فأكثر لحقيقة أن ما يريدونه وما يرغبون بتحققه، حتى لو كان أبسط حقوقهم الإنسانية، بات رهناً بالكامل للإرادات والتوافقات ومصالح الآخرين.
لا يسيطر اليأس على سوريّ الشمال أو الشمال الشرقي في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، بل يشمل طبعاً السوريين القابعين تحت حكم هذا النظام، وكذلك اللاجئين في مختلف بقاع العالم، مع رمي ممثلي سلطات الأمر الواقع في مختلف أنحاء البلاد كل أوراقهم بيد حلفائهم الخارجيين، سواء الروس أو الإيرانيين أو الأتراك أو الأمريكيين.
وإذا كان اليأس السياسي قد فرض نفسه منذ عدة أعوام على السوريين، فإن اليأس الاقتصادي يجثم على صدور الجميع اليوم مشكلاً كابوسا مروعاً بعد بلوغ معدلات الفقر والبطالة والتضخم أرقاما قياسية، بينما لا يجدون من حولهم أي جهة تبدي قليل اهتمام بهذه المأساة، بل على العكس من ذلك، تبدو مختلف الأطراف متمسكة بما لديها من سلطة، مهما كانت هزلية، وليست بوارد الحديث عن أي تنازلات سياسية يمكن أن تقدم من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
فالنظام يبدو اليوم في أحسن حالاته بعد الانتصارات التي حققها خلال العامين الماضيين تحديداً، وبوجود حليفين قويين يقاتلان دفاعاً عنه حتى الآن، وهما روسيا وإيران، فإن شيئاً لا يمكن أن يجعله بوارد التفكير بالدخول في أي تفاوض جدي يفضي إلى حل سياسي وفق مقررات الأمم المتحدة ومؤتمر جنيف ذات الصلة.
والمعارضة المدعومة من تركيا، ورغم الخسارة العسكرية التي منيت بها مؤخراً في إدلب، فإنها تفوقها قبل ذلك في عملية نبع السلام بالتحالف مع أنقرة ضد قوات سوريا الديمقراطية، ودخول الجيش التركي بقوة إلى جانبها في معارك إدلب، بما أفضى في النهاية إلى إعادة التوازن وخلق شعور جديد بوجود سند قوي إلى جانبها هذه المرة لن يسمح معه بعد اليوم بتعريضها للهزيمة، وبالتالي فإنها لن تكون مستعدة للاعتراف بالهزيمة، كما تمنى النظام وحلفاؤه، وبإجبارها على القبول بأي حل يفرض عليها.
قوات سوريا الديمقراطية هي أيضاً من جانبها، ورغم الخسارة الفادحة التي تعرضت لها في تشرين الثاني 2019 على يد الجيش التركي والفصائل المدعومة منه، ينتابها الشعور ذاته الذي ينتاب هذه الفصائل اليوم، مع عودة الحليف الأمريكي إلى الزج بمزيد من التعزيزات وإنشاء قواعد عسكرية أخرى في مناطق سيطرتها، وتكرار الحديث عن تأمين مصادر النفط في مناطق سيطرتها تحت حماية قوات التحالف، بما يفضي بالنهاية إلى إحساس قوي بالأمان، بعد القلق الكبير الذي تسببت به عملية نبع السلام وما رافقها من ظروف سلبية تجاه هذه القوات، وبالتالي دافع قوي بالنسبة لها من أجل عدم الاستعجال نحو تقديم تنازلات من أجل أي حل سياسي لا يحقق لحزب الاتحاد الديمقراطي (بي واي دي) طموحاته.
تبدو مختلف الأطراف إذاً في وضع مريح سياسياً وعسكرياً، وحده الملف الاقتصادي يطل برأسه كملف ضاغط، وخاصة على النظام الذي ينتظره دخول قانون قيصر حيز التنفيذ ابتداء من منتصف الشهر القادم، الأمر الذي يأمل معه البعض أن يجبر هذا النظام وحلفاءه على تقديم تنازلات لا يبدو أن إيران والأسد معنيان حتى بمجرد التفكير بها، بينما تجد روسيا، التي تدرك مخاطر تطبيق هذا القانون على استثماراتها وطموحاتها الاقتصادية في سوريا، تجد نفسها عاجزة عن إقناع دمشق وطهران بضرورة التعاطي الجدي مع هذا القانون.
وفق هذه الخريطة البائسة والمعقدة من المعطيات، لا يبقى أمام السوري إلا عدم الاستسلام لليأس الذي تحاول كل الأطراف فرضه عليه، وعلينا جميعاً أن نؤمن بأن قدرة هذه القوى على التحكم إلى ما لا نهاية بخيوط اللعبة، ليست كما تعتقد، وسيجد الكل أنفسهم في لحظة ما، نرجو أن تكون قريبة، خاضعين لإرادة التغيير الحتمية.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت