لم تكن يافطات الترحيب أو الحشود الشعبية في انتظار وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عند هبوط طائرته في مطار أنقرة، لكن حفاوة الاستقبال وما قيل لنا خلال المؤتمر الصحفي المشترك الذي عقده مع نظيره التركي مولود جاويش أوغلو وطبيعة الملفات الثنائية والإقليمية التي نوقشت، توحي كلها أن أنقرة تواصل إغضاب حليفها الأميركي ولا تأبه بما ستقوله أو ستفعله الإدارة الأميركية في ملفات ثنائية وإقليمية حساسة تعني البلدين. لا يمكن الفصل بين فحوى زيارة لافروف وأهدافها، وبين التصريحات النارية التي أدلى بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حول سياسة واشنطن التي تتعارض كليا مع ما تقوله وتريده أنقرة في سوريا والعراق وشرق المتوسط وإيجه وموقفها من التوتر التركي اليوناني، حيث سيرتفع قريبا عدد القواعد الأميركية في اليونان إلى 12 قاعدة برية وبحرية بعد إيقاف تركيا تقديم الخدمات في قاعدة إنجرليك الاستراتيجية.
قناعة الداخل التركي هي أن فريق عمل الرئيس الأميركي جو بايدن هو الذي يحرض اليونان على افتعال أزمة أكبر مع أنقرة والدليل هو حفاوة استقبال رئيس الوزراء اليوناني ميتشوتاكيس قبل أسابيع والتصفيق الحار الذي كان في انتظاره في الكونغرس وهو يطالب بعدم تزويد الأتراك بمقاتلات إف 16 والتكنولوجيا العسكرية المتطورة ودعم أثينا لوقف “التهديدات والاستفزازات والتحرشات” التركية في إيجة وشرق المتوسط وقبرص. من.. هل تنفذ تركيا عملية عسكرية خامسة في شمال سوريا؟ إلى.. هل تقع المواجهة العسكرية بين أنقرة وأثينا في إيجة وكيف ستتصرف أميركا هنا وهي تواجه معضلة شراكتها مع البلدين تحت المظلة الأطلسية؟
على ماذا تعول “قوات سوريا الديمقراطية” و”وحدات الحماية الكردية” لإطالة فترة مقاومة القوات التركية عند انطلاق العمليات العسكرية؟ على محاولة إيقاع أكبر الخسائر في صفوف القوات التركية المتحالفة مع الجيش الوطني السوري خلال العملية العسكرية الخامسة المرتقبة؟ أم على مدينة الأنفاق التي حفرتها تحت الأرض بهدف المواجهة حتى آخر ميليشياوي إيراني وجندي في صفوف النظام السوري اقتربت من خطوط المعارك المحتملة القريبة من الحدود التركية السورية في الشمال؟ أو على تنفيذ عمليات الكر والفر بتقليد الجيش الأوكراني في حربه مع القوات الروسية؟ أم على 30 شاحنة سلاح أميركي انتقلت مؤخرا من شمال العراق إلى شرق الفرات؟ أم على الزيارات الغربية المكثفة لمنطقة شرق الفرات في محاولة لرفع معنويات قسد الميدانية والسياسية والدعاية التي تقودها بعض الفضائيات العربية تحت شعار الدفاع عن حقوق أكراد سوريا؟
نجحت أنقرة في تحديد سياسة التعامل مع الحرب في أوكرانيا عبر تبني مواقف حيادية إيجابية تحمي مصالحها مع طرفي النزاع. هي لم تنجح في وساطتها على خط وقف القتال وإيجاد حل دبلوماسي للأزمة. لكنها تحاول مرة أخرى في مسألة تسهيل خروج آلاف الأطنان من الحبوب المحاصرة في المخازن والمستودعات الأوكرانية عبر “ممر آمن” في قلب البحر الأسود برعاية أممية. الذي يغضب واشنطن هنا ليس فقط مواصلة أنقرة لجهودها على خط كييف موسكو، بل احتمال محاصرة الغرب بخطة مقايضة الإفراج عن القمح الأوكراني مقابل تسهيل فك الحصار عن آلاف الأطنان من الحبوب والزيوت والأسمدة الروسية المحاصرة بسبب العقوبات والحظر الغربي. لا بل إن الكارثة على سياسة واشنطن السورية هي في حال كانت المقايضة الحقيقية تسير باتجاه آخر، تصعيد تركي مستمر في موضوع التحفظ على عضوية السويد وفنلندا في الأطلسي مقابل ضوء أخضر روسي لأنقرة لتنفيذ عمليتها في شمال شرقي سوريا.
كانت واشنطن فرحة للتباعد التركي الروسي في موضوع قسد وخطة إلهاء موسكو بسيناريو احتمال حدوث تقارب بين النظام في دمشق ومجموعات قسد. لكن رد بشار الأسد على مظلوم كوباني الذي تحدث عن ضرورة التنسيق مع النظام لأن مصحة سوريا العليا تتطلب ذلك، قابلها بعد ساعات تذكير الأسد لقيادات قسد بأنها حلقة في مخطط انفصالي. الأسد يقول لمظلوم كوباني رجل أميركا في سوريا والمنسق الأمني مع طهران حول اقتراح احتمال التنسيق في مواجهة القوات التركية والدفاع معا عن “التراب السوري”. أوقفوا العمالة والخيانة واستسلموا لنا وسلموا أسلحتكم وبعدها نناقش التنسيق والتعاون! هو في الأساس رد روسي عبر النظام في سوريا على إشارات ضوئية أميركية برفض عروض وبدائل تعرضها لإنهاء التقارب والتنسيق التركي الروسي في سوريا.
عندما يقول لافروف إن بلاده تتفهم قلق تركيا حيال ما يجري على حدودها الجنوبية، فقد يفسر بأنه قبول روسي بعملية عسكرية تركية محددة ومحدودة. لكن ما سمعناه أثناء المؤتمر الصحفي المشترك هو الحديث عن وحدة سوريا وضرورة تفعيل الحوار السياسي وإسراع إيجاد حل للأزمة التي تعيشها البلاد منذ أكثر من عقد. مطالب أنقرة وأهدافها تتوضح أكثر فأكثر في ملف الأزمة السورية: إنهاء لعب ورقة قسد ضدها من قبل واشنطن وبعض العواصم الغربية والإقليمية. إغلاق ملف مئات السجناء من مجموعات داعش وعدم التلويح الغربي الدائم بهذه الورقة بهدف تبرير الدعم العسكري والمالي لمجموعات قسد من جهة وإبقاء موضوع التنظيمات الإرهابية في سوريا دمية بيد أميركا تحركها عبر حليفها المحلي لعرقلة أي خطة أمنية وسياسية في سوريا لا تعطيها ما تريده.
ترفض أنقرة بعد الآن لعب ورقة دعم “مجموعات إرهابية” لتبرير دعم “مجموعات إرهابية” أخرى في شرق الفرات. وتريد حسم مسألة المجموعتين معا. الأقرب إليها في هذا الطرح هو الجانب الروسي هنا وهذا ما تم التوافق حوله بين جاويش أوغلو ولافروف كما يبدو. البديل الوحيد الذي قد يوقف العملية العسكرية التركية هو ليس تشدد موسكو وواشنطن وطهران في رفض هذه العملية، بل حراك دبلوماسي سياسي إقليمي دولي جديد يفعل التسويات في الملف السوري ككل.
تحاول واشنطن محاصرة روسيا وعزلها في البحر الأسود، وتحاول أنقرة إطلاق يدها وفك الحصار المفروض عليها غربيا فلماذا ستتردد موسكو برد الجميل التركي في شمال سوريا أولا ثم في تحريك ملف التسوية السياسية التي يريدها حزب العدالة والتنمية الحاكم وهو في الطريق إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية ثانيا؟ الصراع الأميركي الروسي سيكون إذا على ما الذي سيحدث في تركيا بعد عام ومن الذي سيقود المشهد؟ من مصلحة روسيا حماية علاقاتها مع أردوغان وحزبه طالما أن بايدن وفريق عمله أعلنا باكرا عن نية دعم المعارضة التركية لإزاحة الحزب الحاكم في تركيا. حسابات دعم وقبول العملية العسكرية التركية بالغة التشابك والتعقيد إذن وهي أبعد من الصفقات السياسية والمقايضات المتوقعة في ملفات متداخلة تركية روسية أميركية. وشق سيناريوهات المشهد السياسي التركي بعد عام سيكون على رأس عوامل تحديد المواقف والخيارات الروسية والغربية.
ستقول موسكو إنها ستلتزم بتنفيذ التعهدات المقدمة لتركيا في تشرين الأول عام 2019 بمساعدتها على إخراج قسد من المناطق الحدودية التركية السورية. وهي قد تكون دخلت مع أنقرة في تفاهمات على تسريع الحل السياسي في سوريا بأكمله إذا ما كانت تريد من أنقرة تجميد خطة المنطقة الآمنة في شمال سوريا. هي ستكتفي ربما عندما تتحرك القوات التركية بما قاله لافروف قبل أيام على أن تركيا لن تبقى صامتة حيال تطورات المشهد في الشمال السوري وهذا من حقها وأن الوجود الأميركي هناك غير شرعي وهدفه تفتيت سوريا.
صدفة خير من ألف ميعاد!
رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت في الإمارات العربية المتحدة قبل يومين.
وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، في الإمارات قبل أسبوعين.
ووزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد آل نهيان، في أنقرة قبل أسبوعين ويومين.
ووزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو في تل أبيب قبل 3 أسابيع.
ووزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان يؤجل زيارته التي كانت مقررة إلى أنقرة يوم الإثنين المنصرم.
الملف الأوكراني بكل تفاصيله في قلب النقاشات وأول ذلك قد يكون الخطة التركية لنقل آلاف أطنان الحبوب إلى العالم والدور الإماراتي والإسرائيلي فيها. لكن الأهم قد يكون الملف السوري وتطوراته على ضوء التوغل الإيراني باتجاه الجنوب والشمال على مرأى ومسمع الروس والأميركان.
قد تكرر دمشق ما فعلته في السابق أكثر من مرة. تترك قسد في مواجهة القوات التركية لإضعافها وتحجيمها، وتحاول توريط أنقرة في المستنقع السوري أكثر فأكثر على الخط العربي والإيراني والغربي. لكن الاحتمال الأقرب هو أن واشنطن ستضحي بحليفها المحلي السوري لعدم خسارة تركيا في المنطقة أكثر من ذلك. لكن الاحتمال الأقرب هو أن الإدارة الأميركية لن تغامر بمصالح حليفها الإسرائيلي وانزعاج صديقها الإماراتي في مسألة لجم النفوذ والتوغل الإيراني في سوريا والعراق ولبنان واليمن أكثر من ذلك.
مأزق الشحن السياسي المتفاعل في العلاقات التركية الأميركية سينفجر حتما عند استخدام قسد لأي سلاح أميركي ثقيل ضد القوات التركية والذي سلم لها تحت ذريعة محاربة داعش الذي لم يعد له هذا الوجود والنفوذ على الأرض في شرق الفرات. هذا ما تنتظره موسكو تحديدا لإعلان موقفها ورسم خطة تحرك النظام وطريقة تعامله مع التطورات. ما يقلق موسكو أكثر من أنقرة ربما احتمال حدوث خدمات إيرانية أميركية متبادلة في سوريا مرتبطة بملفات إقليمية تعني الطرفين وبينها صفقة الملف النووي الإيراني.
هدية إلى الذين يستفسرون عن طريقة وأسلوب اقتناص الفرص. مستجدات مسار العلاقات التركية الروسية تتمحور في هذه الآونة على تسهيل انتقال العشرات من الشركات الروسية العملاقة من أوروبا إلى مدينة إسطنبول. هذا يعني مليارات الدولارات من العلاقات الاقتصادية والتجارية والخدماتية بين البلدين.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت