لا تخفي روسيا طموحها في بسط نفوذها على كل الأراضي السورية، تحت يافطة مساعدة نظام الأسد، لذلك تركز جهودها في المرحلة الراهنة على مناطق الشمال السوري، بشقيها الغربي، الذي تسيطر عليه فصائل متشدة وأخرى من المعارضة السورية المدعومة تركياً إلى جانب وجود قوات تركية، والشرقي الذي تسيطر عليه “قوات سوريا الديمقراطية” المدعومة أميركياً وتوجد فيها قوات أميركية.
وإذا كانت روسيا تعتبر أن وجود كل القوات الأجنبية على الأرض السورية غير شرعي، مستثنية وجود قواتها العسكرية الذي تعتبره شرعياً، فإنها باتت، في المرحلة الراهنة، تقرّ بعدم قدرتها على إعادة “كل شبر من الأراضي السورية إلى سيطرة الحكومة الشرعية”، مثلما كانت تردد منذ بداية تدخلها العسكري المباشر إلى جانب نظام الأسد، وقادها ذلك إلى الإقرار بواقع وجود القوات التركية والأميركية في مناطق الشمال السوري، والانطلاق من التسليم بعدم صلاحية الحل العسكري في تلك المناطق التي ما زالت خارجة عن سيطرة نظام الأسد، لذلك راحت تبحث عن كيفية التغلغل في تلك المناطق، سواء عبر التفاهمات مع تركيا وفق مسار أستانة الذي استفادت منه كثيراً في بسط نفوذها في مناطق الشمال الغربي السوري، أو عبر بناء تفاهمات مع حزب الاتحاد الديمقراطي وقوات سوريا الديمقراطية، وأخيراً رعت الاتفاق بين حزب الإرادة الشعبية السوري التابع لها ومجلس سوريا الديمقراطي.
وتشي زيارة الوفد الروسي الأخيرة إلى دمشق أن روسيا أرادت من خلالها توجيه رسائل عديدة إلى نظام الأسد، غايتها استثمار ما صرفته عسكرياً، خلال السنوات الخمس الماضية، في مشاريع واستثمارات اقتصادية وترتيبات سياسية، لذلك أبلغت نظام الأسد، وعلى لسان وزير خارجيتها سيرغي لافروف، رسالة تفيد بضرورة الإبقاء على الوضع الراهن في الشمال السوري، والإقرار بالاتفاق الذي أبرم بين الحزب الموالي لها ومجلس سوريا الديمقراطية، وبحث ممكنات إيجاد صيغة لدمج القوى الكردية في مسارات اللجنة الدستورية وإشراكها في التسويات المقبلة للوضع السوري.
ولعل موضوعات سياسية عديدة تناولها الوفد الروسي خلال زيارته إلى دمشق، طاولت اللجنة الدستورية، وتفاهمات الروس مع مختلف الأطراف، والوضع في الشمال السوري وترتيباته ومستجداته، في وقت سربت فيه بعض المصادر الروسية ما قيل إنها مقترحات تركية تخص الوضع في إدلب، لذلك أشاد لافروف بالاتفاقات الروسية التركية فيها. كما طاولت الأوضاع في الجزيرة السورية، وخاصة السعي الأميركي إلى بناء تفاهمات بين حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي وقوات سوريا الديمقراطية وبين أحزاب المجلس الوطني الكردي، إلى جانب موضوع سيطرة القوات الأميركية على حقول النفط فيها.
وإن كانت موسكو قد ضمنت لها نفوذاً متزايداً في مناطق الشمال الغربي من سوريا، عبر التفاهمات مع تركيا، حيث باتت تسيّر درويات مشتركة معها على الطريق إم 4، فإنها ضمنت أيضاً نفوذها في مناطق شرقي نهر الفرات، عبر وجود قواتها في بعض المناطق ومزاحمتها للقوات الأميركية، إلى جانب سعيها إلى منافسة الإدارة الأميركية على الورقة الكردية، من خلال فتح أبواب الحوار مع قواها المسيطرة على الأرض، وبذلها جهوداً سياسية مع أجل إيجاد مخرج لإشراك القوى الكردية في اللجنة الدستورية، لكنها تصطدم بمعارضة تركيا، لذلك تحاول إيجاد صيغة لا تثير معارضة تركيا لها، بينما لا يبدو أن منافسة الروس للأميركيين على الورقة الكردية السورية، هدفها إشراك ممثلين عن القوى الكردية في اجتماعات اللجنة الدستورية، ومحاولة الالتفاف على الرفض التركي، ولا محاولة إبعادهم عن الأميركيين فقط، بل تحقيق اتفاقيات اقتصادية معها، خاصة أن المنطقة التي تسيطر عليها غنية بحقول النفط والغاز، بغية الالتفاف والتملص من عقوبات قانون قيصر.
غير أن تركيا تتخوف من أن محاولات روسيا في إشراك القوى الكردية المسيطرة على مناطق في شرقي الفرات، مثل محاولات الجانب الأميركي، تصب في خانة إيجاد شرعنة سياسية للقوى الكردية الانفصالية والمعادية لها، ويشكل ذلك تهديداً مباشراً لأمنها، كونها تعتبر أن كلاً من حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري وقوات سورية الديمقراطية، مرتبطة بحزب العمال الكردستاني التركي، وجميعها منظمات إرهابية حسب تصنيفها.
ويبدو أن ساسة الكرملين يريدون هندسة تسوية للوضع السوري على مقاسهم، يضمنون فيها نفوذ بلادهم ومصالحهم قبل كل شيء، مع مراعاة التفاهمات مع نظرائهم الأتراك في مناطق إدلب وسواها من المناطق التي توجد فيها قوات تركيا، لذلك راحوا يسلكون طريقاً قديماً للتسوية ينهض على إحياء اتفاق أضنة، المبرم في 1998 مع تركيا، في محاولة منهم لتطبيع علاقات نظام الأسد مع تركيا على أساسه، لكن الساسة الأتراك ما زالوا يرفضون فتح أي حوار سياسي معه.
ولعل الأهم بالنسبة إلى الروس هو عدم عرقلة النظام خطواتهم الرامية إلى هندسة الوضع السوري، بما فيها تفاهماتهم مع الأتراك، ومع الأطراف السورية في الشمال السوري وغيره من المناطق، إلى جانب صراعهم مع الأميركيين لاستمالة القوى الكردية نحو أجندتهم السورية، التي يضعونها تحت يافطة “السيادة ووحدة الأراضي السورية”، لكن كل ذلك يدخل في الإطار المرحلي والاستباقي في انتظار ما سيفسر عنه السباق الانتخابي الرئاسي الأميركي.
ويحاول ساسة موسكو الظهور أمام المجتمع الدولي على أنهم باتوا اللاعب الأساسي في الملف السوري، والوسيط والضامن الوحيد لالتزام مختلف الأطراف بالتوافقات والاتفاقات التي عقدوها مع جميع الأطراف المتدخلة في الشأن السوري، لذلك ربطوا المساعدات والمشاريع الاقتصادية التي سيقدمونها لنظام الأسد بحصول تغيير سياسي في مواقف النظام السوري، لكن ليس – كما يدعون – باتجاه تطبيق القرار الأممي 2254 المتعلق بالوصول إلى حل سياسي متوافق عليه، بل في إطار تقاسم مناطق النفوذ في سوريا، الذي حققته القوى الخائضة في الصراع عليها، مع إضافة بُعد متوسطي للصراع على خلفية الصراع الدولي والإقليمي على مصادر الطاقة في منطقة شرقي البحر المتوسط، الذي يريد الروس دخوله من البوابة السورية.
المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت